«مثل كل الأطفال، أتيت إلى هذه الحياة باكياً، غير أني لا أريد مغادرتها باكياً! سأضحك، سأضحك وأنا على سرير الموت، لست أهتم بمن يتوسل إليّ، ولست ألتفت إلى من يتوعدني! سأضحك رغم الوجوه المتجهمة، ورغم النظرات العاتبة! سأضحك رغم كل شيء، وسأصرخ في الجميع: كفى! حان وقت الرحيل، أطفئوا الأضواء، وأسدلوا الستارة على هذه الكوميديا السخيفة!».
من كتاب بلا عنوان لكاتب مجهول!
لايختلف اثنان على سطح هذه الأرض بشأن حقيقة الموت، ولكن الخلاف يبدأ عندما ينتقل الحديث إلى سيناريو ما بعد الموت! الموت على الطريقة الفرعونية، مثلاً، يبدأ باختبار رمزي له دلالة عميقة، فبعد أن تفيض روح الإنسان الفرعوني ويلج إلى عالم الظلام، تقوم الآلهة بوضع قلبه في كفة ميزان، ووضع «ريشة الحقيقة» على الكفة الأخرى، وعندما ترجح كفة القلب، تدب الحياة من جديد في جسد الميت ليكمل طريقه المحفوف بالمخاطر إلى مملكة الآلهة، وأما إن حدث العكس، فإن جسد الميت يتحول إلى وجبة طعام يلتهمها الوحش «آمت»! من الواضح أن هذا السيناريو لمرحلة ما بعد الموت يختلف تماماً عما نعرفه في الأديان السماوية، ولكن على الرغم من هذا الاختلاف، فإن الشيء المؤكد هو أن الخوف من الموت يعتبر مصدر قلق دائماً للإنسان، منذ فجر التاريخ إلى يومنا الحاضر.
بعد رحيل أرسطو، ظهرت في الحقبة الهلينية حركات فلسفية حاولت التأقلم مع الموت وتخفيف حدة الخوف منه، ومن بين أبرز هذه الحركات الفلسفية نذكر على سبيل المثال المدرسة الأبيقورية والمدرسة الرواقية، لكن ظهور الديانة المسيحية في ما بعد ساهم إلى حد كبير في تأجيج فكرة الخوف من الموت وزرعها في قلوب المؤمنين من أتباع الكنيسة! لو تأملنا أدب القرون الوسطى منذ مطلع القرن الرابع إلى بدايات القرن الثالث عشر في أوروبا، وهو أدب يعكس في معظمه تعاليم الكنيسة الكاثولوكية، لوجدنا صورة مظلمة عن الحياة الدنيا، وإصرارا على حث الناس على استثمار حياتهم في الاستعداد لاستقبال الموت! لم يقتصر رجال الكنيسة على الدعوة إلى الزهد في حياة لم يزهدوا هم أنفسهم فيها، بل راحوا يتفنون في تصوير لحظة الاحتضار بكل تفاصيلها المرعبة، فأخذوا يتحدثون عن كيفية انفصال الروح عن الجسد، وعن توافد الشياطين على سرير الموت قبل خروج الروح، وعن ظلام القبر وأهواله! هناك أيضا تفاصيل مروعة عن الجحيم التي أعدها الرب لكل جاحد، ولعل من الطريف (إن كان في الأمر طرافة!) أن نشير هنا إلى أن الجحيم، حسب تعاليم الكنيسة، تغلق أبوابها أيام الآحاد، مما يعني أن يوم الأحد هو بمنزلة يوم راحة من العمل في الحياة الدنيا، ويوم راحة من العذاب في الحياة الآخرة!
حسب التراث المسيحي، عندما يموت الإنسان، هناك طريقان لا ثالث لهما: طريق المسيح الذي يفضي إلى الجنة، وطريق الشيطان المؤدي إلى النار. هذه الثنائية حول مصير الإنسان في العالم الآخر تؤدي، حسب اعتقادي، وظيفتين سياسيتين تخدمان مصالح الكنيسة، فعندما تكون هناك حاجة ماسة إلى إخضاع المتمردين وخمد الثورات، يتم التركيز على تحذير الناس من طريق الشيطان واستغلال خوفهم الطبيعي من الموت، وعندما تبرز الحاجة إلى إعداد الجيوش وخوض حروب «مقدسة» لتوسيع خريطة الكنيسة وبسط نفوذها، تصبح التعاليم الدينية منصبّة على طريق المسيح المليء بمعاني التضحية بالنفس!
مع حلول عصر النهضة الأوروبية، حدثت تغيرات جوهرية ساهمت في جعل فكرة الموت قضية ثانوية، وطغى شعور عام يميل إلى الإقبال على بهجة الحياة، ونبذ الخوف وتأكيد الذات، وقد أدى كل ذلك، ضمن عوامل أخرى، إلى تقلص نفوذ الكنيسة وضياع هيبتها، وسوف أحاول في المقال القادم أن أتناول هذه التغيرات الجوهرية بشيء من التفصيل.
الأربعاء، 29 يوليو 2009
الخوف من الموت 1-2
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق