من يستمع إلى خطب معظم المرشحين الفائزين في الانتخابات البرلمانية يلاحظ نبرة شكر وامتنان مبالغ فيها تجاه الناخبين، وبغض النظر عن صدق هذه النبرة، فإن الشيء المؤكد هو أن النائب يدخل البرلمان تحت وطأة الشعور بأنه مدين لكل من ساهم في نجاحه. هذا الشعور يدفع النائب عادة إلى تبني كل رأي يحظى بشعبية واسعة، ويتحاشى في المقابل، الآراء الأقل شعبية. هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك عن طريق المتاجرة بتبني الآراء الشعبية والدفاع عنها، كما أن هناك حركات وتكتلات سياسية قائمة على فكرة «ما يطلبه الناخبون» واستثمارها في صناديق الاقتراع!
ليس لدي أدنى اعتراض على تبني الرأي الأكثر شعبية، ولكن اعتراضي هو على فكرة أن تكون «الشعبية» هي المعيار الأول والأخير للدفاع عن أي رأي يتعلق بالشأن العام. يحق لأي نائب الدفاع، مثلا، عن مسألة إسقاط القروض، لكن لا يحق له أن يستند إلى حجة أن هذه القروض تمس شريحة كبيرة من المواطنين! إذا كان هذا النائب ممثلاً للأمة بأسرها فعلاً، وإذا أراد أن يكون أكثر إقناعاً، فعليه أن يثبت عدم تأثير مسألة إسقاط القروض على اقتصاد الدولة. لقد وصل الوضع من السوء إلى درجة أن يكون الاعتراض المنطقي والمقنع على أي رأي شعبي أشبه بانتحار سياسي! من المؤسف أن نتعامل مع نواب البرلمان وكأنهم مندوبون في البورصة، يعرفون مجريات الأمور وخفاياها، ولكنهم لايملكون الحق في بيعٍ أو شراء إلا بأمرنا!
أعلم أن «الأمة مصدر السلطات جميعاً» حسب المادة السادسة من الدستور، ولكن هذا لا يعني أن الأمة بجميع أفرادها هي التي تقوم بتشريع القوانين، فالديموقراطية الكويتية ليست «ديموقراطية مباشرة» على طريقة «أثينا» في العصور القديمة، بل هي «ديموقراطية تمثيلية»، وسلطة الأمة بجميع أفرادها تنحصر في تحديد مَن يمثلها تحت قبة البرلمان عن طريق صناديق الاقتراع. بمعنى آخر، الأمة تحدد مَن يحكم (جزئياً على الأقل في ظل ديموقراطيتنا المنقوصة)، وأعضاء البرلمان يحددون كيفية الحكم. أحد الأسباب الرئيسية في فشل الديموقراطية الكويتية هو أن الناخب يتجاوز حقه في التصويت أثناء فترة الانتخابات إلى المطالبة بحقه بالتأثير على عملية التصويت تحت قبة البرلمان.
من المهم التوقف قليلاً عند علاقة التأثير المتبادل بين النائب والناخب، وسوف أحاول أن أثبت للقارئ أننا نتعامل مع هذه العلاقة بطريقة غير عادلة! أثناء فترة الانتخابات النيابية، وقبل فترة التصويت الانتخابي تحديداً يحق للمرشح التأثير في إرادة الناخب بكل الطرق المشروعة، لكن بمجرد أن تحين ساعة الاقتراع، نقوم بحماية إرادة الناخب من تأثير المرشح عن طريق اعتماد التصويت السري، لكن ماذا يحدث في المقابل بعد فترة الانتخابات؟ قبل التصويت النيابي داخل البرلمان يحق للناخب التأثير في إرادة النائب عن طريق الضغط الشعبي، وعندما تحين ساعة التصويت على شأن من شؤون الدولة داخل البرلمان، نترك النائب تحت رحمة الشارع عن طريق اعتماد التصويت العلني تحت قبة البرلمان! لست ضد حق الناخبين في إقناع النائب بوجهة نظرهم عن أي شأن عام، ولكني أطالب فقط بحماية إرادة النائب من الضغط الشعبي عن طريق اعتماد سياسة التصويت السري تحت قبة البرلمان، فنحن نقوم حاليا بحماية إرادة الناخب عن طريق التصويت السري أمام صناديق الاقتراع، ولكننا نهمل حماية إرادة النائب عن طريق التصويت العلني في البرلمان!
لست أدري إن كانت هناك دراسة تختص بعقد مقارنة بين القوانين الناتجة عن التصويت العلني والقوانين الناتجة عن التصويت السري، ولكني لن أفاجأ إذا عرفت أن معظم القوانين التي تم التصويت عليها بطريقة سرية تصب في مصلحة الدولة على المدى البعيد، بينما تعبر معظم القوانين التي تم التصويت عليها بطريقة علنية عن الضغوط الشعبية ذات المدى القصير! نريد رجال دولة لهم القدرة على الحكم على الأمور بعيداً عن الصخب الشعبي، نريد رجال دولة يملكون الشجاعة في تبني رأي يستند إلى حجج منطقية ويصب في مصلحة الدولة، مهما كان هذا الرأي «غير شعبي»! باختصار، نريد رجال دولة قلوبهم على مستقبل البلد، بدلا من أن تكون عيونهم على الانتخابات القادمة!
الأربعاء، 29 يوليو 2009
متى تفشل الديموقراطية... ومتى تنجح؟ 2 – 2
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق