ليس ثمة شك في أن الخطاب الديني «المعتدل» يلقى تشجيعاً واسعاً بين أنصار الخطاب العلماني العربي، وهذا أمر يسهل فهمه في ظل وجود خطاب ديني متطرف، لكن هناك مع الأسف من يخلط بين تجشيع الخطاب الديني المعتدل وتبنّي أبجديات هذا الخطاب، إلى درجة أصبحنا فيها عاجزين عن رصد الخط الفاصل بين الخطاب العلماني العربي والخطاب الديني المعتدل! أدرك أن العثور على رجل دين معتدل يشبه العثور على عملة نادرة في زمننا الحاضر، وأفهم أيضاً أن ينتشي العلمانيون العرب عند عثورهم على من يمنحهم الحق «الشرعي» في الوجود، لكن ما لا أفهمه هو أن تتجاوز النشوة مداها فتستحيل إلى سكرة تُذهِب العقل، وهذا ما نراه بوضوح في خطاب علماني عربي مرصّع بمفردات دينية غيبية، كأن الأمر أشبه بضريبة يقدمها العلمانيون العرب لرجال الدين المعتدلين، شكراً وعرفاناً لمنحهم إياهم الحق في الوجود والتعبير عن آرائهم! بل إن منهم من لا يتردد في التنظير حول ماهية «الإسلام الصحيح»، وكأن وظيفة الخطاب العلماني هي إيجاد صيغة علمانية، إلى جانب الصيغ التي تقدمها المذاهب الدينية المتناحرة، حول هوية الإسلام الصحيح! ما قيمة أن يفرح العلمانيون العرب بحقهم في الوجود بعد أن أضاعوا خطابهم؟
في بعض الأحيان، يلجأ بعض العلمانيين العرب إلى تضمين خطابه مفردات دينية تدل على معتقداته الدينية، لكن ليس على شكل ضريبة حق الوجود هذه المرة، بل على شكل ضريبة الخوف من جهل الدهماء، فمن المعروف أن تشويه المفاهيم هو إحدى ثمار عصر «الصحوة»، وربما احتل مفهوم «العلمانية» المركز الأول في قائمة المفاهيم المشوّهة، وبدلاً من محاولة إزالة هذا التشويه مع الاحتفاظ بخطاب علماني أصيل، تحوّل الخطاب العلماني العربي إلى خطاب يعتمد «التقية» تحسباً من غضب الجماهير وطمعاً في الحد الأدنى من القبول الاجتماعي، والمحصلة النهائية، مع الأسف الشديد، هي أن الخوف من جهل الآخرين أضحى عاملاً مهماً في تحديد شكل الخطاب العلماني العربي!
حصر مفهوم «العلمانية» في فكرة الفصل بين الدين والدولة، وتبني لغة الخطاب الديني المعتدل، والخوف من جهل الآخرين، هذه هي بعض الأسباب التي ساهمت في انحسار الخطاب العلماني، وهي أسباب تدفعنا إلى التعامل مع مفهوم العلمانية بصورة شاملة، والاكتفاء بتشجيع الخطاب الديني المعتدل من دون الحاجة إلى تبني مفردات الخطاب ذاته، والعمل على إعادة الاعتبار للمفاهيم الغربية المشوّهة في ثقافتنا العربية.
أخيراً، بإمكانك عزيزي القارىء أن تسفّه وتحتقر كل كلمة وردت في هذا المقال، وهذا من حقك، لكن لاحظ أن هذا الحق ليس سوى ثمرة من ثمار الخطاب العلماني، فهو خطاب لا يحتمي بالمقدس كي يسلب منك الحق في التعبير عن رأيك، ولا يستند إلى المقدس كي يفرض على الجميع وجهة نظر موحدة! لو ملأت هذا المقال باستشهادات من نصوص مقدسة، فهل تستطيع أن تزعم أنك مازلت تحتفظ بحقك في تسفيه كل كلمة في هذا المقال؟ عندما أمتنع عن الاستشهاد بنصوص دينية كي أقنعك بوجهة نظري، فإن السبب في ذلك لا يرجع إلى وقوفي ضد الدين، بل لأني أرغب في أن نفكر سوياً دون قيد أو شرط، ودون خوف من اختراق القانون، ودون طمع في نيل استحسان الآخرين! عندما ينتقل المعتقد الديني من المحيط الاجتماعي إلى المحيط الفردي، فإن العقل يؤتي ثماره، والدين يحتفظ بطهارته، ولعل المعنى العميق لطهارة الدين يكمن في رفض الوصاية على العقل. هذا بالضبط ما تنشده العلمانية، رغم كل ما تعرّض له هذا المفهوم من تضليل وتشويه وتدليس!
الأربعاء، 29 يوليو 2009
انحسار الخطاب العلماني 2-2
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق