بمجرد دخولي، اكتشفت أننا في صالة مسرح ضخمة. جلس الجميع كيفما اتفق، لا أرقام ولا تذاكر! على خشبة المسرح، وقف خمسة جنود بريطانيين، بينهم ضابط. رحّب الضابط بالجميع، ثم قدّم لنا الميجور 'كلارك' من الجيش البريطاني ليشرح طبيعة المهمة التي تنتظر المترجمين الكويتيين في العراق. بدا واثقاً من نفسه هذا الميجر وهو يقف على خشبة المسرح! كان يتحدث بلهجة إنكليزية يغلب عليها الطابع الأرستقراطي، إذ يبدو أنه ينتمي إلى تلك الطبقة الاجتماعية التي لا فخر لأفرادها سوى أنهم 'تكبدوا مشقة المجيء إلى هذه الحياة'، على حد تعبير شخصية 'فيغارو' في مسرحية 'حلاق اشبيلية'! لمحت في يد الميجور شيئاً ذا بريق: خاتم زواج! تركها هناك مع طفلين على أكثر تقدير، ولعله لم يكن بكل هذه الثقة والهيبة لحظة الوداع! من الجائز أيضا أنه أحس بانقباض في صدره حين رآها تلوّح له بيدها من بعيد! لم يدم حديث الميجور أكثر من بضع دقائق، ثم ختم قائلاً: 'يسرني الإجابة عن أي سؤال قد يتبادر إلى أذهانكم'!
كما توقعت، عكست أسئلة المترجمين في مجملها طبيعة نظامنا التعليمي، فنصف الأسئلة لم يكن له داعٍ على الإطلاق، ذلك أن حديث الميجر تضمن إجابات وافية عنها! النصف الآخر من الأسئلة كان على غرار هذا السؤال 'الذكي': هل يسمح بالتدخين أثناء أعمال الترجمة؟! لكن السؤال الأكثر ذكاء جاء من جهة الصف الأخير: هل تضمنون عودتنا أحياء بعد الحرب؟! تعالت أصوات الضحك في القاعة، ثم تلتها أصوات صفارات الإنذار! صاح الميجور بالجميع: انبطحوا... انبطحوا!
اختفى الجمهور... الكل تحت الكراسي! استلقيت ورأسي ناحية الممر، ولمحت من بين المقاعد انبطاح الجنود على خشبة المسرح، بينما كانوا يرتدون أقنعة واقية من الغاز! علّق أحد المترجمين من بين الكراسي قائلا: 'ماذا عنّا نحن؟ هل نموت كالفئران بينما يرتدون هم أقنعتهم بكل أنانية'؟! ردّ آخر ليقول: 'أوه... لا تخافوا، سيوزعون علينا الأقنعة عن قريب، ما في ذلك شك'! الصوت المرعب يقترب، يبتعد، يقترب، يبتعد... أين يسقط الصاروخ؟! خشبة المسرح أمامي، أراها بوضوح، يقف عليها ممثلون بأقنعة سوداء، كائنات غريبة، غير بشرية، عديمة الإحساس، قبيحة! أخيراً، لم يمت أحد! الجمهور يعود من جديد إلى المقاعد، والوجود تبدو مبتهجة! الإحساس بنشوة النجاة يشوبه أحياناً شعور بالخزي، فلو بقينا في مقاعدنا لكانت النتيجة ذاتها: لم يحدث شيء! لكن ماذا لو حدث شيء فعلاً؟ ماذا لو لم تكن هناك حرب أساساً؟ ماذا لو لم نكن...؟ قائمة 'ماذا لو' طويلة، ومن دون فائدة! عجلة الزمن تسير في اتجاه واحد، وهنا تكمن وحشية الوجود الإنساني!
أخبرنا الميجور أن الطريق غير آمنة، وأن فكرة الانتقال بالحافلات إلى الحدود محفوفة بالمخاطر! سرت إشاعة تفيد بأن الانتقال إلى الحدود سيكون من خلال الطائرات المروحية بدلاً من الحافلات! لجأ أغلب المترجمين إلى هواتفهم النقالة للاطمئنان على الأهل! أبقيت هاتفي مغلقا: لم أسمع صوت انفجار، لِمَ الاتصال إذن؟ الشخصية الكويتية تبالغ كثيراً في التعبير عن مشاعرها! خرجت إلى الساحة. رائحة التبغ زكية! أنفث الدخان، يتطاير ثم يختفي: السماء خالية، لم يصلوا بعد! ما هي إلا لحظات حتى خرج الجميع تقريباً إلى الساحة، ثم توزعوا تلقائيا على شكل مجموعات صغيرة: ينتظرون، يتحدثون، يتجادلون! هؤلاء هم زملاء الحرب، لكن مَن منهم سيكون صديقا في الدرب!
ماذا حدث بعد ذلك؟ سأقلب صفحة الدفتر في الأسبوع القادم!
الجمعة، 31 يوليو 2009
صفحات من دفتر الذاكرة 2
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق