'بوعلي'، هكذا سمعتهم ينادونه، له زعيق من نوع خاص، يجلب الصداع! يرتدي نظارات سميكة، وله كرش كبيرة لا تتناسب مع زيه الرياضي! إذا صرفنا النظر عن شاربه المصبوغ بلون أسود داكن، فإن من العدل القول إنه في بداية العقد السادس من عمره. وقف 'بوعلي' يحرِّض الجميع على التراجع:
'هل رأيتموهم كيف ارتدوا أقنعة الغاز من دون أن يلتفتوا إلينا؟ لسوف يرموننا رمي الكلاب فور دخولنا العراق! هؤلاء الإنكليز لا صاحب لهم! نحن مترجمون، نحن مدنيون، تذكروا ذلك!'
سأله أحدهم بخبث:
- 'إذن نرجع إلى بيوتنا، هل هذا ما تريد يا 'بوعلي'؟
- 'لا ... أنا لم أقل ذلك، لكن ليس هناك ضمانات! يقول الميجور: 'انبطحوا'! ما شاء الله، وهل يكترث الغاز بوضعيتي وما إذا كنت مستلقياً على بطني أو جالساً على مؤخرتي؟! ما فائدة الانبطاح من دون كمّام الغاز؟ سنموت، سنتعفن، ولن يدري بنا أحد!'
صاحب الصوت الخبيث يزداد خباثة:
- 'هداك الله يا بو علي، لماذا تطوعت في العمل كمترجم إذن؟!'
- 'قرادة يا أخي'!
إلى جانب هذه الصفة الواضحة فيه، بدا 'بوعلي' عفوياً إلى حد السذاجة. خسارة أن ينقرض هذا النوع من الأشخاص بيننا، والخسارة الكبرى هي أن يتكاثروا!
أدخّن، لا شيء سوى الانتظار! السماء مازالت خالية. سيكون من الممتع مشاهدة 'بوعلي' في داخل إحدى الطائرات المروحية! سأحرص على أن أكون إلى جانبه متى سنحت الفرصة! لن تستغرق الرحلة إلى الحدود أكثر من خمس عشرة دقيقة على الأرجح. لدي رغبة لا تقاوم في معرفة ما سيقوله 'بوعلي' وهو معلّق بين السماء والأرض! السؤال الخبيث لا يخلو من منطق: مالذي يدفع شخصاً مثل 'بوعلي' إلى الذهاب طواعية إلى الحرب؟ ربما بدت إجابته ظريفة، لكنها حتما لم تكن مقنعة! أخيراً، لم تصل الطائرات المروحية، بل ثلاث حافلات: خسارة!
طلب منّا الجنود الاصطفاف لاستلام الهوية. لا أدري ما الحكمة من الاصطفاف بينما وقف أحد الجنود ينادي الجميع بالاسم؟!
- 'Fahad R. Al-Mutairi'
استلمت الهوية. صورتي بشعة، كالعادة! حاجبي الأيسر يرتفع لا إرادياً لحظة التصوير! لا أتذكر صورة واحدة لي لا تبدو فيها عيني اليسرى أوسع من العين اليمنى! الهوية في غاية البساطة، طُبعت على عجل:
British Army
Interpreter: Fahad R. Al-Mutairi
Date of Birth: 15 May 1973
ID Number: 1109
رقم الهوية سهل الحفظ: الحادي عشر من سبتمبر! كنت في إسبانيا يومها، في قاعة الامتحان. دخلت أستاذة الأدب الأندلسي مرعوبة إلى القاعة، وقبل أن تقوم بتوزيع أوراق الامتحان، أخبرتنا بما حدث في نيويورك! شاء سوء الحظ أن أكون العربي الوحيد بين الحضور، وبينما راحت الأستاذة تعبّر عن غضبها وإدانتها لتلك الأعمال الإجرامية، كانت عيناها في عيني طوال الوقت! شعرت بأنها توجّه توبيخها لي أنا شخصياً، لذا قمت في نهاية الاختبار بكتابة سطرين على ورقة الامتحان: 'أستاذتي الفاضلة، ليس بوسع المرء أن يعتذر عن فعل إجرامي لم يقم به'! رسبت في الاختبار!
حان وقت الرحيل. دخلت الحافلة الوسطى، فشاهدت 'بوعلي' جالساً خلف السائق مباشرة! انطلقت الحافلات تتقدمها سيارتان عسكريتان من الجيش البريطاني. خيّم الهدوء على الجميع طوال الرحلة. الوجوه بدت مرهقة، والأنظار مشدودة إلى الخارج: لا شيء يغري في الداخل! دوّار 'العظام' بدا أضخم من قبل، والبيوت السكنية أشد تألقاً، ومدينة الجهراء أكثر قرباً، وتلال المطلاع أكبر ارتفاعاً! إيه أيها الرفاق: لحظة الوداع لها سحر خاص، مهما كانت ثقيلة! المجهول في انتظاركم، ومن دون المجهول لا قيمة للأمل! أمّلوا ما شئتم، إذن، سيبقى المجهول هناك في انتظاركم!
'هل رأيتموهم كيف ارتدوا أقنعة الغاز من دون أن يلتفتوا إلينا؟ لسوف يرموننا رمي الكلاب فور دخولنا العراق! هؤلاء الإنكليز لا صاحب لهم! نحن مترجمون، نحن مدنيون، تذكروا ذلك!'
سأله أحدهم بخبث:
- 'إذن نرجع إلى بيوتنا، هل هذا ما تريد يا 'بوعلي'؟
- 'لا ... أنا لم أقل ذلك، لكن ليس هناك ضمانات! يقول الميجور: 'انبطحوا'! ما شاء الله، وهل يكترث الغاز بوضعيتي وما إذا كنت مستلقياً على بطني أو جالساً على مؤخرتي؟! ما فائدة الانبطاح من دون كمّام الغاز؟ سنموت، سنتعفن، ولن يدري بنا أحد!'
صاحب الصوت الخبيث يزداد خباثة:
- 'هداك الله يا بو علي، لماذا تطوعت في العمل كمترجم إذن؟!'
- 'قرادة يا أخي'!
إلى جانب هذه الصفة الواضحة فيه، بدا 'بوعلي' عفوياً إلى حد السذاجة. خسارة أن ينقرض هذا النوع من الأشخاص بيننا، والخسارة الكبرى هي أن يتكاثروا!
أدخّن، لا شيء سوى الانتظار! السماء مازالت خالية. سيكون من الممتع مشاهدة 'بوعلي' في داخل إحدى الطائرات المروحية! سأحرص على أن أكون إلى جانبه متى سنحت الفرصة! لن تستغرق الرحلة إلى الحدود أكثر من خمس عشرة دقيقة على الأرجح. لدي رغبة لا تقاوم في معرفة ما سيقوله 'بوعلي' وهو معلّق بين السماء والأرض! السؤال الخبيث لا يخلو من منطق: مالذي يدفع شخصاً مثل 'بوعلي' إلى الذهاب طواعية إلى الحرب؟ ربما بدت إجابته ظريفة، لكنها حتما لم تكن مقنعة! أخيراً، لم تصل الطائرات المروحية، بل ثلاث حافلات: خسارة!
طلب منّا الجنود الاصطفاف لاستلام الهوية. لا أدري ما الحكمة من الاصطفاف بينما وقف أحد الجنود ينادي الجميع بالاسم؟!
- 'Fahad R. Al-Mutairi'
استلمت الهوية. صورتي بشعة، كالعادة! حاجبي الأيسر يرتفع لا إرادياً لحظة التصوير! لا أتذكر صورة واحدة لي لا تبدو فيها عيني اليسرى أوسع من العين اليمنى! الهوية في غاية البساطة، طُبعت على عجل:
British Army
Interpreter: Fahad R. Al-Mutairi
Date of Birth: 15 May 1973
ID Number: 1109
رقم الهوية سهل الحفظ: الحادي عشر من سبتمبر! كنت في إسبانيا يومها، في قاعة الامتحان. دخلت أستاذة الأدب الأندلسي مرعوبة إلى القاعة، وقبل أن تقوم بتوزيع أوراق الامتحان، أخبرتنا بما حدث في نيويورك! شاء سوء الحظ أن أكون العربي الوحيد بين الحضور، وبينما راحت الأستاذة تعبّر عن غضبها وإدانتها لتلك الأعمال الإجرامية، كانت عيناها في عيني طوال الوقت! شعرت بأنها توجّه توبيخها لي أنا شخصياً، لذا قمت في نهاية الاختبار بكتابة سطرين على ورقة الامتحان: 'أستاذتي الفاضلة، ليس بوسع المرء أن يعتذر عن فعل إجرامي لم يقم به'! رسبت في الاختبار!
حان وقت الرحيل. دخلت الحافلة الوسطى، فشاهدت 'بوعلي' جالساً خلف السائق مباشرة! انطلقت الحافلات تتقدمها سيارتان عسكريتان من الجيش البريطاني. خيّم الهدوء على الجميع طوال الرحلة. الوجوه بدت مرهقة، والأنظار مشدودة إلى الخارج: لا شيء يغري في الداخل! دوّار 'العظام' بدا أضخم من قبل، والبيوت السكنية أشد تألقاً، ومدينة الجهراء أكثر قرباً، وتلال المطلاع أكبر ارتفاعاً! إيه أيها الرفاق: لحظة الوداع لها سحر خاص، مهما كانت ثقيلة! المجهول في انتظاركم، ومن دون المجهول لا قيمة للأمل! أمّلوا ما شئتم، إذن، سيبقى المجهول هناك في انتظاركم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق