الإضاءة داخل الخيمة أشد مما ينبغي. انسحبت بهدوء إلى الظلام الدامس. وضعت كيس الملابس العسكرية إلى جانبي، وأخرجت علبة السجائر. لاحظت اقتراب شعلة صغيرة من طرف سيجارتي:
- 'تدخن كثيراً، ليس أكثر مني على أي حال'!
كان هذا الشخص هو الوحيد الذي يرتدي 'دشداشة' من بين جميع المترجمين. جلس صاحب 'الدشداشة' يدخن إلى جانبي. لم تكن لدي أدنى رغبة في الحديث، لكن فكرة أن يأتي شخص غريب ليشعل سيجارتك من دون أن تطلب منه ذلك تتضمن دعوة إلى الحديث! هيأت نفسي لخوض حوار عابر مع شخص لا أعرفه، لكن البداية لم تكن مشجعة:
- متزوج؟!
أمقت الأسئلة الشخصية، لكن لم يدهشني هذا السؤال، ففي الكويت الأسئلة التي هي من نوع 'كم مقدار راتبك الشهري؟' لا تعتبر أسئلة شخصية في نظر العديد من الناس! أجبت على مضض:
- لا، ليس بعد!
- ما أسعدك! أنا لدي أربعة أطفال!
- وتركتهم مع أمهم هناك كي تأتي إلى هذه الحرب الغبية؟!
- نعم! أحمق، أليس كذلك؟!
بدا لي هذا الشخص غريب الأطوار، لكن ما أدهشني هو حرصي على أن يستمر الحديث بيننا. ربما أردت أن أعرف السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى هنا رغم ارتباطاته الأسرية. ترددت في البداية، لكني تشجعت وسألته عن السبب. مرّت لحظات من الصمت، ثم أجابني بنبرة متشنجة، لكنها صادقة، أو هكذا بدت لي:
- عندما تعيش حياة غبية وتافهة، تصبح قيمة هذه الحياة في نظرك رخيصة! لدي من العمر سبعة وثلاثون عاماً، لكن عندما ألتفت إلى الوراء، لا أجد شيئاً واحداً يستحق أن يذكر! أعمل في مكان قريب من دوّار 'الشيراتون'، وفي كل صباح أشاهد وسائل الإعلام من شتى بقاع العالم ترصد أنباء الحرب الوشيكة. أمام هذا الحدث الكبير، من الصعب أن تختار العيش على الهامش! تملكتني رغبة عارمة في أن أكون في قلب الحدث، ووجدت أن فكرة العمل كمترجم في الجيش البريطاني تلبي هذه الرغبة! هذا باختصار هو سبب مجيئي إلى هنا، لكن ماذا عنك أنت؟!
السؤال كان مباغتاً، لكني أصبحت الآن مديناً له بإجابة:
- أنا.. لا أدري! هناك سبب بطبيعة الحال، ولكن يبدو أن قوالب الألفاظ لا تسعفني في شرحه! في أواخر الصيف الماضي، عندما ترددت الأنباء عن احتمال اندلاع حرب وشيكة في المنطقة، كنت في رحلة إلى مدينة 'كيوتو' اليابانية. دخلت أحد المعابد، وشاهدت الناس يؤدون أحد الطقوس الدينية. أعجبتني الفكرة فانضممت إليهم! ضممت يديّ وأغمضت عينيّ، ثم تمنيت أمنية واحدة فقط، وبعدها قرعت الأجراس! حسب الطقوس، كان من المفترض أن تظل الأمنية في طي الكتمان، فلا ينبغي أن تبوح بها لأحد! لا أجد الآن ضرورة في الالتزام بهذا الشرط، لأن الأمنية لم تتحقق: كانت أمنيتي الوحيدة هي عدم اندلاع الحرب! خرجت من المعبد، وشاهدت عجوزا تقرأ الكف! لا أؤمن بهذه الخرافات، لكني قدّمت لها كفّي لتقرأه! قالت لي بنبرة واثقة: 'ستموت قبل أن تكمل الثلاثين من عمرك'! عجوز سخيفة! في هذه اللحظة التي أحدثك فيها، أبلغ من العمر 29 عاماً و10 أشهر و5 أيام!
- لا أصدّق أنك جئت إلى هنا كي تختبر صحة ما قالته تلك العجوز المشعوذة!
- إطلاقا، وسبق أن قلت لك إني لا أؤمن بتلك الخرافات، بل جئت لأختبر أشياء أخرى، جئت لأختبر مدى إيماني بالأفكار التي أعتنقها والمبادئ التي أؤمن بها! عندما تكون آمناً مطمئناً، لك أن تتبنى ما يحلو لك من أفكار، لكن الشعور بالخطر يتيح لك القيام بتصفية هذه الأفكار، فلا يبقى منها سوى ما يستحق البقاء! الحرب بالنسبة لي مثل فراش الموت بالنسبة للملحد، ففراش الموت هو المكان المناسب لاختبار مدى تمسّك الملحد بإلحاده!
- هل تؤمن...؟!
قطعت حديثنا صيحات الجنود: Gas… Gas.. Gas! بادر الجميع إلى ارتداء أقنعة الغاز. فتحت الكيس وبحثت عن كمام الغاز. ضربات قلبي تزداد تسارعاً! وقف صاحبي لمساعدتي في ارتداء الكمام، لكنه فاجأني من جديد بسؤال مباغت:
- ربما يسقط الصاروخ في هذا المكان، لذا لن تجد أفضل من هذه اللحظة المرعبة لاختبار مدى إيمانك بأفكارك ومبادئك، أما أنا فلن أجد أفضل من هذه اللحظة كي أطرح عليك السؤال من جديد: هل تؤمن...؟
نظرت إليه ضاحكاً لأجيب:
- اسمع، حسب شهادة ميلادي، الديانة هي 'مسلم'، لكنك تعلم أن شهادات الميلاد قد تكون غير دقيقة!
- 'تدخن كثيراً، ليس أكثر مني على أي حال'!
كان هذا الشخص هو الوحيد الذي يرتدي 'دشداشة' من بين جميع المترجمين. جلس صاحب 'الدشداشة' يدخن إلى جانبي. لم تكن لدي أدنى رغبة في الحديث، لكن فكرة أن يأتي شخص غريب ليشعل سيجارتك من دون أن تطلب منه ذلك تتضمن دعوة إلى الحديث! هيأت نفسي لخوض حوار عابر مع شخص لا أعرفه، لكن البداية لم تكن مشجعة:
- متزوج؟!
أمقت الأسئلة الشخصية، لكن لم يدهشني هذا السؤال، ففي الكويت الأسئلة التي هي من نوع 'كم مقدار راتبك الشهري؟' لا تعتبر أسئلة شخصية في نظر العديد من الناس! أجبت على مضض:
- لا، ليس بعد!
- ما أسعدك! أنا لدي أربعة أطفال!
- وتركتهم مع أمهم هناك كي تأتي إلى هذه الحرب الغبية؟!
- نعم! أحمق، أليس كذلك؟!
بدا لي هذا الشخص غريب الأطوار، لكن ما أدهشني هو حرصي على أن يستمر الحديث بيننا. ربما أردت أن أعرف السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى هنا رغم ارتباطاته الأسرية. ترددت في البداية، لكني تشجعت وسألته عن السبب. مرّت لحظات من الصمت، ثم أجابني بنبرة متشنجة، لكنها صادقة، أو هكذا بدت لي:
- عندما تعيش حياة غبية وتافهة، تصبح قيمة هذه الحياة في نظرك رخيصة! لدي من العمر سبعة وثلاثون عاماً، لكن عندما ألتفت إلى الوراء، لا أجد شيئاً واحداً يستحق أن يذكر! أعمل في مكان قريب من دوّار 'الشيراتون'، وفي كل صباح أشاهد وسائل الإعلام من شتى بقاع العالم ترصد أنباء الحرب الوشيكة. أمام هذا الحدث الكبير، من الصعب أن تختار العيش على الهامش! تملكتني رغبة عارمة في أن أكون في قلب الحدث، ووجدت أن فكرة العمل كمترجم في الجيش البريطاني تلبي هذه الرغبة! هذا باختصار هو سبب مجيئي إلى هنا، لكن ماذا عنك أنت؟!
السؤال كان مباغتاً، لكني أصبحت الآن مديناً له بإجابة:
- أنا.. لا أدري! هناك سبب بطبيعة الحال، ولكن يبدو أن قوالب الألفاظ لا تسعفني في شرحه! في أواخر الصيف الماضي، عندما ترددت الأنباء عن احتمال اندلاع حرب وشيكة في المنطقة، كنت في رحلة إلى مدينة 'كيوتو' اليابانية. دخلت أحد المعابد، وشاهدت الناس يؤدون أحد الطقوس الدينية. أعجبتني الفكرة فانضممت إليهم! ضممت يديّ وأغمضت عينيّ، ثم تمنيت أمنية واحدة فقط، وبعدها قرعت الأجراس! حسب الطقوس، كان من المفترض أن تظل الأمنية في طي الكتمان، فلا ينبغي أن تبوح بها لأحد! لا أجد الآن ضرورة في الالتزام بهذا الشرط، لأن الأمنية لم تتحقق: كانت أمنيتي الوحيدة هي عدم اندلاع الحرب! خرجت من المعبد، وشاهدت عجوزا تقرأ الكف! لا أؤمن بهذه الخرافات، لكني قدّمت لها كفّي لتقرأه! قالت لي بنبرة واثقة: 'ستموت قبل أن تكمل الثلاثين من عمرك'! عجوز سخيفة! في هذه اللحظة التي أحدثك فيها، أبلغ من العمر 29 عاماً و10 أشهر و5 أيام!
- لا أصدّق أنك جئت إلى هنا كي تختبر صحة ما قالته تلك العجوز المشعوذة!
- إطلاقا، وسبق أن قلت لك إني لا أؤمن بتلك الخرافات، بل جئت لأختبر أشياء أخرى، جئت لأختبر مدى إيماني بالأفكار التي أعتنقها والمبادئ التي أؤمن بها! عندما تكون آمناً مطمئناً، لك أن تتبنى ما يحلو لك من أفكار، لكن الشعور بالخطر يتيح لك القيام بتصفية هذه الأفكار، فلا يبقى منها سوى ما يستحق البقاء! الحرب بالنسبة لي مثل فراش الموت بالنسبة للملحد، ففراش الموت هو المكان المناسب لاختبار مدى تمسّك الملحد بإلحاده!
- هل تؤمن...؟!
قطعت حديثنا صيحات الجنود: Gas… Gas.. Gas! بادر الجميع إلى ارتداء أقنعة الغاز. فتحت الكيس وبحثت عن كمام الغاز. ضربات قلبي تزداد تسارعاً! وقف صاحبي لمساعدتي في ارتداء الكمام، لكنه فاجأني من جديد بسؤال مباغت:
- ربما يسقط الصاروخ في هذا المكان، لذا لن تجد أفضل من هذه اللحظة المرعبة لاختبار مدى إيمانك بأفكارك ومبادئك، أما أنا فلن أجد أفضل من هذه اللحظة كي أطرح عليك السؤال من جديد: هل تؤمن...؟
نظرت إليه ضاحكاً لأجيب:
- اسمع، حسب شهادة ميلادي، الديانة هي 'مسلم'، لكنك تعلم أن شهادات الميلاد قد تكون غير دقيقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق