وقف أحد الجنود ينادي من خلال مكبّر الصوت:
- Bunker ...Bunker
توجّه الجميع إلى الخنادق. حرمني كمّام الغاز من ارتداء نظارتي: وضعتها في جيب القميص. لا أرى شيئاً، بينما المطلوب هو أن أعثر على خندق في أقل من دقيقة وفي جنح الظلام! قلت لصاحبي إني منذ هذه اللحظة أصبحت 'رجلا مستطيعاً بغيره'، كما كان أبو العلاء المعري يصف نفسه! طلب مني أن أتبعه، فمشيت على خطاه! عثرنا على خندق، لكن سمعنا صوتاً من داخله يقول:
- Sorry guys, it’s full!
صاح صاحبي غاضبا: 'هل هذا خندق أم فندق؟!' عدنا من جديد نبحث عن مكان آمن! صاحبي يتمتم من خلف الكمّام ببعض الألفاظ، أظنها كانت ألفاظا نابية! أخيراً جاء الفرج: صوت من تحت الأرض يأمرنا أن نقفز بسرعة إلى أسفل! لحظات الصمت في جوف الخندق رهيبة، لكن الرهبة تتضاعف عند سماع الأنفاس المتقطعة لمن هم حولك! سمعت صوتاً يقول: One، ثم صوتا آخر يقول: Two! كلما زادت قيمة العدد الذي أسمعه، اقترب الصوت مني أكثر فأكثر! أخيراً، نطق من كان جالسا على يميني: Eight، فأدركت أني يجب أن أقول: Nine، ثم لكزت صاحبي فنطق: Ten! مرّت بضع دقائق، ثم عادت مكبرات الصوت من جديد:
- All Clear, All Clear
زال الخطر، وقبل أن نخرج من الخندق، عادت لعبة الأرقام من جديد! قال صاحبي معاتباً أحد الجنود: 'هل كان من الضروري أن نخمّن قواعد الاختباء في الخندق من دون مساعدتكم؟' عدنا إلى الخيمة. وقف ضابط برتبة كبيرة، يدخن غليوناً، ومن حوله عدد قليل من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة. ألقى الضابط الكبير خطاباً مقتضباً، عبّر من خلاله عن شكره العميق لجميع المترجمين الذين قبلوا التطوّع في هذه 'المهمة الإنسانية'! سمعت كثيراً عن 'البروباغندا' في زمن الحروب، لكن هذا الضابط أتاح لي أن أراها متجسدة أمامي!
أمر الضابط الكبير بتقسيم المترجمين إلى مجموعات صغيرة، ثم وضع ضابطاً على رأس كل مجموعة. ألقيت نظرة على كشف الأسماء، فشاهدت اسمي ضمن المجموعة التي ستنتقل إلى معسكر أسرى الحرب شمال مدينة 'أم قصر'. صاحبي سينتقل إلى 'صفوان'! لمحت 'بو علي' من بعيد، بدا لي في غاية السرور! علمت فيما بعد أنه انضم إلى المجموعة الوحيدة التي لا يتعين عليها دخول العراق!
الباصات تنتظر في الخارج. سارت كل مجموعة خلف الضابط المسؤول عنها. أومأت بيدي من بعيد مودّعا صاحبي! لا أظن أنه رآني، كان يبدو مندمجاً في الحديث مع الضابط الكبير! سِرت خلف مجموعتي إلى أحد الباصات. كثافة عدد المترجمين داخل الباص منخفضة جدا: نحن ثمانية، بينما عدد مقاعد الباص فاق الخمسين مقعداً! سائق الباص عربي الجنسية، اسمه 'بدري'. يبدو وديعاً، لكنه سيفصح لاحقا عن جوانب خفية في شخصيته! دخل إلى الباص ضابط برتبة نقيب: 'أنا الكابتن 'هاوس'، سأكون مسؤولا عنكم طوال فترة إقامتكم في معسكر الأسرى. لن نصل إلى هناك مباشرة، فقد نضطر إلى المبيت في هذا الباص على الحدود'! ألقى نظرة إلى الخارج ثم أضاف: 'عددكم ثمانية، وكشف الأسماء يشير أيضا إلى أن العدد ثمانية، لكن أخبرني أحد الزملاء أنه يتعين علينا انتظار قدوم مترجم تاسع'! ما إن ختم الكابتن حديثه حتى وصل المترجم التاسع. لم أصدق عينيّ، صاحبي يدخل الباص غامزاً بعينه! جلس إلى جانبي ليقول: 'من سيدلك على مواقع الخنادق غيري، يا أعمى؟!'
الجمعة، 31 يوليو 2009
صفحات من دفتر الذاكرة 6
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق