عندما تتقاتل طائفتان دينيتان، فإن خيار القتال ناتج عن حقيقة أن كل طائفة على حدة تحتكم إلى نص مقدس مغاير، أو تستند إلى تفسير خاص لنص عام، لكن من المستحيل أن يتقاتل عالمان لتحديد النظرية الصحيحة، فكلاهما يحتكم إلى شروط التجربة العلمية ذاتها!
للعلم أثران في حياتنا: سطحي وعميق. الأثر السطحي يتعلق بأسلوب العيش، والأثر العميق يختص بأسلوب التفكير. الأول انتشاره في تزايد، والثاني انحساره في تفاقم. هناك فرق بين الاستفادة من نتائج العلم عن طريق استخدام المخترعات العلمية في حياتنا اليومية، وبين تقدير دور العلم من خلال إدراك آلية الطريقة العلمية وأثرها في أسلوب التفكير. نحن حريصون على أولوية الاستفادة من الأثر السطحي للعلم على حساب أولوية الإدراك لأثره العميق، وهذا يعني أننا نضع حواسنا الخمس في مرتبة أرقى من مرتبة العقل! هذا المقال هو محاولة للتأكيد على النقطة التالية: لن تكون هناك ثورة في التفكير حتى ينال العلم منّا ما يستحق من إعجاب وتقدير!
العلم يتسم بالوضوح، فلغة العلم هي لغة رياضية منطقية، والجُمَل التي تشكل قوام هذه اللغة لها إحدى قيمتين، إما صحيحة و إما خاطئة، ووظيفة التجربة العلمية هي تحديد إحدى هاتين القيمتين. هذا يعني أن النظرية العلمية ليست نصاً مقدساً له أكثر من تفسير، بل هي إما صحيحة (حتى يثبت العكس) وإما خاطئة! العلم يتسم أيضا بالموضوعية، والموضوعية تعني القدرة على تقييم الحجج المتناقضة حسب قوانين منطقية، بعيداً عن الأهواء الشخصية أو الدوافع الذاتية. عندما تتقاتل طائفتان دينيتان، فإن خيار القتال ناتج عن حقيقة أن كل طائفة على حدة تحتكم إلى نص مقدس مغاير، أو تستند إلى تفسير خاص لنص عام، لكن من المستحيل أن يتقاتل عالمان لتحديد النظرية الصحيحة، فكلاهما يحتكم إلى شروط التجربة العلمية ذاتها! موضوعية العلم تقودنا إلى ملمح آخر من ملامح العلم، وهو احترام الدليل العلمي، وبما أن الدليل العلمي هو محصلة قوانين منطقية من جهة،
ومحصلة تجربة مخبرية من جهة أخرى، فإن احترام العالِم للدليل العلمي هو في حقيقة الأمر احترام لقدراته العقلية
والحسية معاً!
الوضوح والموضوعية واحترام الدليل المنطقي، هذه هي بعض ملامح العلم، وتقدير دور العلم في حياتنا مرتبط بمدى الاستفادة من هذه الملامح في تدبير شؤوننا اليومية. الوضوح مهم عند مخاطبة العقول، لكننا نلجأ بدلاً من ذلك إلى الصراخ لمخاطبة القلوب! الموضوعية ضرورية في حالة اختيار أو اتخاذ القرار، لكننا سرعان ما نميل وننحاز إلى حيث الأهواء الشخصية والمصالح الآنية! احترام الدليل المنطقي دليل على احترام العقل، لكننا أمة ديوانها الشِعر، فمكانة القلب لدينا أسمى بكثير من مكانة العقل!
جاءني مرة شخص متدين له في قلبي مكانة عظيمة، ثم أهداني كتاباً عن حياة السيد المسيح، راجياً مني قراءته، ومتمنيا لي الهداية! أخذت الكتاب بعد أن وعدته بقراءته قراءة متمعنة وموضوعية، لكني أعطيته بالمقابل كتاباً بعنوان «لماذا لستُ مسيحيا؟»، للمفكر الإنكليزي برتراند رسل، وطلبت منه أن يقرأ الكتاب بعقلية منفتحة وغير منحازة، وما كان منه إلا أن أجابني بنبرة متحدية: «تأكد أن كتابك هذا لن يزعزع إيماني مهما حصل»! لم أتمالك نفسي فضحكت من هذا التصرف الذي ينم عن تناقض واضح، ولكن هذه هي العقلية الدينية، عقلية لا موضوعية ولا تقيم وزناً للدليل المنطقي «مهما حصل»!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
مهما حصل
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق