هناك اختلاف بين مفهوم الوطن و مفهوم الدولة: الأول يعبر عن الارتباط العاطفي للفرد مع بقعة جغرافية، و الثاني يحدد الجانب القانوني لهذا الارتباط· هناك أيضا طريقتان لتعريف الوطنية: الأولى عن طريق مفهوم "الوطن"، و الثانية من خلال مفهوم "الدولة"· الحكومة تفضل عادة الطريقة الأولى في تعريف الوطنية، و المعارضة تحبذ الطريقة الثانية! ليس من المستغرب أن يكون خطاب من يحكم مليئا بعبارات حب الوطن و الولاء له و الذود عنه، بينما يتسم خطاب من يعارض بعبارات الدفاع عن الدستور و الحقوق و الأموال و الحريات العامة· كل طرف على حدة يحاول أن يبيع للمواطن نسخته الخاصة حول مفهوم الوطنية، و المواطن يشتري من الحكومة عندما يحس بالخطر من الخارج، و يشتري من المعارضة عندما يستشعر الخطر في الداخل! كقانون عام، عدم الاستقرار الخارجي يعزز من سلطة الحكومة، و عدم الاستقرار الداخلي يغذي سلطة المعارضة، و مفهوم الوطنية بضاعة رائجة في كلتا الحالتين! من زاوية أخرى، مَن يحكم يميل إلى التفرد بالسلطة، و من يعارض يحاول تقاسم هذه السلطة، و مفهوم الوطنية يعتبر أيضا سلاحا فعالا في كلتا الحالتين·
تسويق كل بضاعة يعتمد على طريقة عرضها، و مفهوم الوطنية لا يشذ عن هذه القاعدة· الحكومة و المعارضة يعتمدان الأسلوب نفسه في تسويق مفهوم الوطنية، و هو أسلوب يرتكز على استثارة النشوة الجماعية بين حشود المستمعين· خطابات هتلر، و موسوليني، و عبدالناصر استطاعت تأمين أقصى قدر من النشوة الجماعية في زمن الحرب، و خطابات مارتن لوثر، و مانديلا و المسعري تمكنت من تحقيق قدرا معقولا من النشوة الجماعية في زمن السلم· لكن مهما بلغت صدقية الخطاب السياسي، علينا أن لا ننسى أن التفكير المنطقي السليم هو أول ضحايا النشوة الجماعية، فعندما تنتشي النفوس تغيب العقول!
لا أميل إلى تعريف وطنية فرد من خلال مدى حبه لوطنه، ذلك أن حب الأوطان مثل حب الأشخاص، فيه مد و فيه جزر، و في كلتا الحالتين ثمة سبب! كما أني لا أميل إلى قياس وطنية فرد من خلال مسطرة الحقوق و الواجبات تجاه الدولة، فعلى الرغم من أن مفهوم الدولة من الناحية النظرية هو مجرد محاولة إيجاد توازن بين الفرد و الجماعة، إلا أنه من الناحية العملية لم ينشأ أساسا إلا لتخليص الفرد من سلطة البابا و إخضاعه من جديد إلى سلطة من نوع آخر، سلطة الملوك و الأمراء· لست ضد مفهوم الدولة الحديثة، لكني ضد استخدام هذا المفهوم كمعيار لوطنية الأفراد·
- مفهوم الوطنية بشكله الحالي فيه بقايا من نفس إقطاعي، فالإحساس بالإنتماء إلى بقعة جغرافية عن طريق التوارث يصاحبه إحساس بتملك هذه البقعة، و لعل ذلك يفسر النزعات العنصرية تجاه الأجانب في كل بقاع الأرض! كما أني لا أجد سببا منطقيا واحدا يجعلني أضع مفهوم القبيلة أو الوطن أو الدين في مرتبة أعلى من مفهوم الإنسانية· عدد الحروب التي خاضها الإنسان باسم القبيلة أو الوطن أو الدين أكثر من أن تحصى، أما شعار "الحرب باسم الإنسانية" فهذا اختراع أمريكي حديث! انهيار مفهوم الولاء للقبيلة أو العشيرة مرهون بإدراك حقيقي لمفهوم الوطن، و انهيار المفهوم الضيق للوطن مرهون بإدراك عميق لمفهوم الإنسان، و عندها فقط يصبح هذا الكوكب مرتعا للجميع!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
الوطنية و حلبة الصراع من أجل السلطة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق