«الطمأنينة... دناءة روحية» ... تولستوي
مازلت أذكر أول يوم دخلت فيه مطعم إحدى المعاهد الدراسية في مدينة «توغ» الفرنسية. كانت مجموعة من الطلبة العرب تحتل طاولة طويلة في وسط الصالة. جلست على مقربة منهم، وأخذت أسترق السمع لأحاديثهم. عرفت في لهجاتهم دولاً مثل ليبيا، والعراق، وسورية، والأردن، والسعودية، والسودان... إلخ، وما أعظم دهشتي حين لاحظت أن أمام كل واحد منهم طبقاً من السمك! أيعقل أن يكون هذا الاتفاق في الشهية من باب المصادفة؟ لم يدم انتظاري طويلا كي أعثر على إجابة، فها هو أحدهم يقترب مني ويلقي عليّ سؤالاً، هو إلى التقريع أقرب منه إلى الاستنكار «أتأكل لحماً لم يذبح على الطريقة الإسلامية؟!». لم أكترث لهذا السؤال الغبي، ولا تعنيني في شيء تلك الشهية الموحّدة التي فرضوها على أنفسهم، إنما الشيء المحزن حقاً، الشيء الرهيب الذي مازلت أجهل أسبابه إلى هذه اللحظة، هو أن أحداً منهم لم يخطر في باله، ولو لمرة واحدة فقط، أن يشذ عن القاعدة! لكأنهم ليسوا في ضيافة الأرض التي أنجبت «ديكارت»! بل «لكأنهم يستحون أن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم» على حد تعبير أحد شياطين «دوستويفسكي»! ما بال أولئك الفتية يتقاعسون عن تحقيق ذواتهم؟ ما بالهم يتنازلون طواعية عن أعز ما يملكون ويجرون لاهثين خلف فتوى دينية؟!
الفلسفة شك من دون يقين، والدين يقين من دون شك، وأما العلم فيقين قائم على شك. في الفلسفة هناك أسئلة من دون أجوبة، وفي الدين هناك جواب لكل سؤال، وفي العلم هناك سؤال حول كل جواب! لو نظرنا إلى أبرز مظهر من مظاهر هذا المجتمع الذي نعيش فيه، فلن نستغرب من اندثار دروس الفلسفة، ومن تدهور البحث العلمي، ومن غياب فضيلة الشك! بمعنى آخر أكثر تحديداً، عندما تكون حياتنا قائمة على يقين من دون شك، تختفي الفلسفة، ويذبل العلم، ويصبح الشك خطيئة توجب الاستغفار!
مازلت أذكر أول يوم دخلت فيه مطعم إحدى المعاهد الدراسية في مدينة «توغ» الفرنسية. كانت مجموعة من الطلبة العرب تحتل طاولة طويلة في وسط الصالة. جلست على مقربة منهم، وأخذت أسترق السمع لأحاديثهم. عرفت في لهجاتهم دولاً مثل ليبيا، والعراق، وسورية، والأردن، والسعودية، والسودان... إلخ، وما أعظم دهشتي حين لاحظت أن أمام كل واحد منهم طبقاً من السمك! أيعقل أن يكون هذا الاتفاق في الشهية من باب المصادفة؟ لم يدم انتظاري طويلا كي أعثر على إجابة، فها هو أحدهم يقترب مني ويلقي عليّ سؤالاً، هو إلى التقريع أقرب منه إلى الاستنكار «أتأكل لحماً لم يذبح على الطريقة الإسلامية؟!». لم أكترث لهذا السؤال الغبي، ولا تعنيني في شيء تلك الشهية الموحّدة التي فرضوها على أنفسهم، إنما الشيء المحزن حقاً، الشيء الرهيب الذي مازلت أجهل أسبابه إلى هذه اللحظة، هو أن أحداً منهم لم يخطر في باله، ولو لمرة واحدة فقط، أن يشذ عن القاعدة! لكأنهم ليسوا في ضيافة الأرض التي أنجبت «ديكارت»! بل «لكأنهم يستحون أن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم» على حد تعبير أحد شياطين «دوستويفسكي»! ما بال أولئك الفتية يتقاعسون عن تحقيق ذواتهم؟ ما بالهم يتنازلون طواعية عن أعز ما يملكون ويجرون لاهثين خلف فتوى دينية؟!
الفلسفة شك من دون يقين، والدين يقين من دون شك، وأما العلم فيقين قائم على شك. في الفلسفة هناك أسئلة من دون أجوبة، وفي الدين هناك جواب لكل سؤال، وفي العلم هناك سؤال حول كل جواب! لو نظرنا إلى أبرز مظهر من مظاهر هذا المجتمع الذي نعيش فيه، فلن نستغرب من اندثار دروس الفلسفة، ومن تدهور البحث العلمي، ومن غياب فضيلة الشك! بمعنى آخر أكثر تحديداً، عندما تكون حياتنا قائمة على يقين من دون شك، تختفي الفلسفة، ويذبل العلم، ويصبح الشك خطيئة توجب الاستغفار!
الشك نشاط ذهني يحرك المياه الراكدة ويزعزع المفاهيم الثابتة، وهو بمنزلة اختبار للأفكار التي نتبناها والمعتقدات التي ورثناها. عندما نشك في فكرة معينة، فإننا لا نرفض هذه الفكرة ولا نقبلها، بل نجعلها في «منزلة بين منزلتين» حسب القاموس المعتزلي. الانتقال من الشك إلى اليقين مشروط بتقديم أسباب منطقية أو دلائل مادية تجيز هذا الانتقال، والوصول إلى اليقين عن طريق الشك يعزز الثقة بسلامة الأفكار والآراء التي ندافع عنها ونسعى الى انتشارها.
هناك من يريد أن يحجر على عقولنا ويمنعنا من طرح الأسئلة، والعقول التي تتوقف عن طرح الأسئلة يسهل صياغتها في قالب واحد، ووظيفة القالب كما نعلم هي إنتاج نماذج متشابهة! هناك من يستخدم «عصا التراث» ليفرض على أفراد المجتمع الواحد نمطاً موحداً في السلوك والتفكير، وكأنه أمام قطيع من الخراف! عندما يرفض الفرد الانضمام إلى القطيع، فإن التهمة الجاهزة هي «التغريد خارج السرب»! لعمري إن تغريداً خارج السرب أشرف من ثغاء بين القطيع!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق