في مؤتمره الصحافي حول ما يسمى بمشروع «الإنقاذ»، نصح محافظ البنك المركزي الحضور قائلا: «إياكم والنظر إلى نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة»! هذه بلا شك نصحية ثمينة، لذا سأحاول من خلال هذا المقال تطبيقها على محافظ البنك المركزي نفسه، فالمحافظ لم يتطرق في مؤتمره الصحافي سوى إلى نصف الحقيقة، وأما النصف الآخر فهو كالتالي:
في أواخر شهر مارس من العام الماضي، نشرت بعض الصحف المحلية خبرا مفاده أن محافظ البنك المركزي عقد اجتماعا مع رؤساء مجالس إدارات البنوك لبحث مشكلة تساهل البنوك المحلية في سياسة تقديم القروض لبعض العملاء من دون الالتفات إلى جودة الضمانات المقابلة لها، وأبدى المحافظ قلقه من النمو المفرط في محفظة التسهيلات الائتمانية لدى البنوك المحلية، حيث بلغ «انتفاخ» هذه المحافظ حوالي 16 مليار دينار كويتي خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط! سأتطرق الآن إلى أبرز النقاط التي جاءت في ذلك الاجتماع:
1- أشار المحافظ إلى أن «صورة البنوك أصبحت غير جيدة في المجتمع»!
2- أكد المحافظ أن التنامي السريع لمحفظة التسهيلات الائتمانية قد يؤدي إلى كارثة تهدد اقتصاد الدولة برمتها!
3- شدد المحافظ على حقيقة أن البنك المركزي سبق أن حذر البنوك المحلية من الأسلوب الخطير الذي تتبعه بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية، لكنه أعرب عن خيبة أمله في عدم تجاوب البنوك مع تحذيراته!
4- طلب مديرو البنوك من المحافظ تحديد نسبة النمو المقبولة لمحفظة التسهيلات الائتمانية لعام 2008، لكن المحافظ لم يحدد نسبة معينة، مكتفيا بالقول إن النسبة يجب أن تكون منخفضة بكثير عن المعدل الراهن (أي في مارس من عام 2008).
أرجو من القارئ أن يضع الأحداث في تسلسلها المنطقي، ففي البداية كان هناك استهتار من بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية عن طريق تمويل عمليات مضاربة بأرقام فلكية، ثم يأتي تحذير البنك المركزي على استحياء لردع هذه الممارسات اللامسؤولة من دون أي تجاوب حقيقي من إدارات البنوك المحلية، لكن نظرا لاستمرار تدفق الأموال لم تكترث البنوك بتحذيرات محافظ المركزي، كما أن المحافظ نفسه لم يجد ضرورة لاتخاذ موقف أكثر صرامة ، ثم تأتي هزة أرضية عنيفة تعصف بأحد البنوك المحلية للأسباب ذاتها التي حذّر منها محافظ المركزي في اجتماع شهر مارس الماضي! رغم كل هذه الحقائق، ورغم وضوح القضية ومعرفة هوية الجاني، يصادق مجلس الأمة على قانون ضمان الودائع سييء الذكر في يوم واحد! لكن هل تعاظمت سلطة البنك المركزي على البنوك إزاء ضمان الودائع؟ لننظر إلى ما يقوله المحافظ حول هذا الشأن:
«البنك المركزي ضمن ودائع البنوك ويشجعها على عملية التمويل ومنح الائتمان على المشاريع التنموية والإنشائية، لهذا تعززت صلاحياته أمام البنوك ويقوم بدور رقابي عليها لكن للبنوك الحرية في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة وأن تتحمل نتيجة تلك القرارات سواء بربح أو خسارة».
لا أدري أين الجديد في كلام المحافظ، فالدور الرقابي على البنوك يدخل ضمن صميم واجبات «المركزي» من دون الحاجة إلى ضمان الودائع، بل حتى الدور الرقابي لم يعد مجديا بعد اكتساح عقيدة «النيوليبرالية» لاقتصاد العالم في العقود الأخيرة، لكن الأمر الغريب فعلا هو أن يتم ضمان ودائع البنوك من المال العام ثم يترك المحافظ الحرية للبنوك في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة! عندما تعرضت «السويد» في أوائل التسعينيات إلى مشاكل اقتصادية شبيهة بالتي يعانيها العالم الآن، صرح رئيس الحكومة السويدية قائلا: «سلطة الحكومة على المؤسسات المالية التي يجب إنقاذها ستقاس من خلال كل كرونة (اسم العملة السويدية) ندفعها من المال العام»! إزاء هذه السياسة الصارمة، نجحت الحكومة السويدية آنذاك في إصلاح اقتصادها الوطني، وحافظت أيضا على حرمة المال العام عن طريق استرجاع كل «كرونة» تم صرفها على عملية إنقاذ المؤسسات المالية. لكن يبدو أن النموذج السويدي لا يعجب الحكومة لدينا، فهي تفضل بدلا منه النموذج الأميركي الذي يقوم على الاستهتار السافر بالأموال العامة!
هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ إطلاقا، فاليوم يأتي محافظ البنك المركزي بمشروع «الإنقاذ»، ومن السهل معرفة هوية من يجب إنقاذهم من خلال النظر إلى تسلسل الأحداث أعلاه، لكن القائمين على هذا المشروع مازالوا يصرون على تسويق فكرة «إنقاذ اقتصاد الدولة»! في المقال القادم، سنتوقف عند تفاصيل المؤتمر الصحافي الذي عقده محافظ البنك المركزي، فنحن كما ذكرنا سابقا حريصون على اتباع نصيحة المحافظ الثمينة: «إياكم والنظر إلى نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة»!
ملاحظة هامشية:
قبل أيام، تم عقد مؤتمر حول دور القطاع الخاص في التنمية، وتم التأكيد من خلال المؤتمر على ضرورة تفعيل قانون الـB.O.T «بأقصى سرعة»! يبدو أن هناك من لا يكفيه الاستيلاء على أراضي الدولة، بل هو يرغب أيضا في الاستفادة من مشروع «الإنقاذ» للاستيلاء على أموال الشعب! بمعنى آخر أكثر تحديدا: قانون الـ B.O.T سيتكفل بتوفير الأرض التي سيقوم عليها المشروع، وقانون «الإنقاذ» سيتكفل بتمويل الشركة التي ترغب في إنشاء المشروع، وأما أرباح المشروع فستذهب إلى جيب صاحب المشروع! هل يتذكر القارئ وظيفة «الطفيليات الضارة» في منهج علم الأحياء؟!
في أواخر شهر مارس من العام الماضي، نشرت بعض الصحف المحلية خبرا مفاده أن محافظ البنك المركزي عقد اجتماعا مع رؤساء مجالس إدارات البنوك لبحث مشكلة تساهل البنوك المحلية في سياسة تقديم القروض لبعض العملاء من دون الالتفات إلى جودة الضمانات المقابلة لها، وأبدى المحافظ قلقه من النمو المفرط في محفظة التسهيلات الائتمانية لدى البنوك المحلية، حيث بلغ «انتفاخ» هذه المحافظ حوالي 16 مليار دينار كويتي خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط! سأتطرق الآن إلى أبرز النقاط التي جاءت في ذلك الاجتماع:
1- أشار المحافظ إلى أن «صورة البنوك أصبحت غير جيدة في المجتمع»!
2- أكد المحافظ أن التنامي السريع لمحفظة التسهيلات الائتمانية قد يؤدي إلى كارثة تهدد اقتصاد الدولة برمتها!
3- شدد المحافظ على حقيقة أن البنك المركزي سبق أن حذر البنوك المحلية من الأسلوب الخطير الذي تتبعه بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية، لكنه أعرب عن خيبة أمله في عدم تجاوب البنوك مع تحذيراته!
4- طلب مديرو البنوك من المحافظ تحديد نسبة النمو المقبولة لمحفظة التسهيلات الائتمانية لعام 2008، لكن المحافظ لم يحدد نسبة معينة، مكتفيا بالقول إن النسبة يجب أن تكون منخفضة بكثير عن المعدل الراهن (أي في مارس من عام 2008).
أرجو من القارئ أن يضع الأحداث في تسلسلها المنطقي، ففي البداية كان هناك استهتار من بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية عن طريق تمويل عمليات مضاربة بأرقام فلكية، ثم يأتي تحذير البنك المركزي على استحياء لردع هذه الممارسات اللامسؤولة من دون أي تجاوب حقيقي من إدارات البنوك المحلية، لكن نظرا لاستمرار تدفق الأموال لم تكترث البنوك بتحذيرات محافظ المركزي، كما أن المحافظ نفسه لم يجد ضرورة لاتخاذ موقف أكثر صرامة ، ثم تأتي هزة أرضية عنيفة تعصف بأحد البنوك المحلية للأسباب ذاتها التي حذّر منها محافظ المركزي في اجتماع شهر مارس الماضي! رغم كل هذه الحقائق، ورغم وضوح القضية ومعرفة هوية الجاني، يصادق مجلس الأمة على قانون ضمان الودائع سييء الذكر في يوم واحد! لكن هل تعاظمت سلطة البنك المركزي على البنوك إزاء ضمان الودائع؟ لننظر إلى ما يقوله المحافظ حول هذا الشأن:
«البنك المركزي ضمن ودائع البنوك ويشجعها على عملية التمويل ومنح الائتمان على المشاريع التنموية والإنشائية، لهذا تعززت صلاحياته أمام البنوك ويقوم بدور رقابي عليها لكن للبنوك الحرية في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة وأن تتحمل نتيجة تلك القرارات سواء بربح أو خسارة».
لا أدري أين الجديد في كلام المحافظ، فالدور الرقابي على البنوك يدخل ضمن صميم واجبات «المركزي» من دون الحاجة إلى ضمان الودائع، بل حتى الدور الرقابي لم يعد مجديا بعد اكتساح عقيدة «النيوليبرالية» لاقتصاد العالم في العقود الأخيرة، لكن الأمر الغريب فعلا هو أن يتم ضمان ودائع البنوك من المال العام ثم يترك المحافظ الحرية للبنوك في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة! عندما تعرضت «السويد» في أوائل التسعينيات إلى مشاكل اقتصادية شبيهة بالتي يعانيها العالم الآن، صرح رئيس الحكومة السويدية قائلا: «سلطة الحكومة على المؤسسات المالية التي يجب إنقاذها ستقاس من خلال كل كرونة (اسم العملة السويدية) ندفعها من المال العام»! إزاء هذه السياسة الصارمة، نجحت الحكومة السويدية آنذاك في إصلاح اقتصادها الوطني، وحافظت أيضا على حرمة المال العام عن طريق استرجاع كل «كرونة» تم صرفها على عملية إنقاذ المؤسسات المالية. لكن يبدو أن النموذج السويدي لا يعجب الحكومة لدينا، فهي تفضل بدلا منه النموذج الأميركي الذي يقوم على الاستهتار السافر بالأموال العامة!
هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ إطلاقا، فاليوم يأتي محافظ البنك المركزي بمشروع «الإنقاذ»، ومن السهل معرفة هوية من يجب إنقاذهم من خلال النظر إلى تسلسل الأحداث أعلاه، لكن القائمين على هذا المشروع مازالوا يصرون على تسويق فكرة «إنقاذ اقتصاد الدولة»! في المقال القادم، سنتوقف عند تفاصيل المؤتمر الصحافي الذي عقده محافظ البنك المركزي، فنحن كما ذكرنا سابقا حريصون على اتباع نصيحة المحافظ الثمينة: «إياكم والنظر إلى نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة»!
ملاحظة هامشية:
قبل أيام، تم عقد مؤتمر حول دور القطاع الخاص في التنمية، وتم التأكيد من خلال المؤتمر على ضرورة تفعيل قانون الـB.O.T «بأقصى سرعة»! يبدو أن هناك من لا يكفيه الاستيلاء على أراضي الدولة، بل هو يرغب أيضا في الاستفادة من مشروع «الإنقاذ» للاستيلاء على أموال الشعب! بمعنى آخر أكثر تحديدا: قانون الـ B.O.T سيتكفل بتوفير الأرض التي سيقوم عليها المشروع، وقانون «الإنقاذ» سيتكفل بتمويل الشركة التي ترغب في إنشاء المشروع، وأما أرباح المشروع فستذهب إلى جيب صاحب المشروع! هل يتذكر القارئ وظيفة «الطفيليات الضارة» في منهج علم الأحياء؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق