أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قضيت وقتاً ممتعاً في قراءة نص مسرحية 'تاتانيا'، والنص من تأليف الأستاذ بدر محارب، وأما أحداث المسرحية فتدور في قرية معزولة اسمها 'تاتانيا'، يعيش فيها أناس أميّون لا يحسنون القراءة أو الكتابة، ويتحكم في إدارة شؤونها رجل دين يدعى القس 'بيير'.
يصل إلى القرية المدرس 'رامون'، محاولاً إخراج أهلها من الظلمات إلى النور، لكنه يكتشف صعوبة المهمة التي جاء من أجلها، فأهل القرية أسرى لأوامر القس ونواهيه، يطيعون كلمته ويخشون سطوته!
وبعد محاولات عديدة، ينجح 'رامون'، أو هكذا يظن، في إقناع أهل القرية بالوقوف ضد القس والتمرد على سلطته، فيثور القس غضباً ليتهم المدرس بأنه 'ملحد وكافر وزنديق'، ثم يأمر بالقبض عليه وإيداعه السجن بتهمة إفساد عقول أهل القرية وتأليب قلوبهم ضد تعاليم الرب، وتتوالى الأحداث بعد ذلك إلى أن يكتشف القارئ ما لم يكُن في الحسبان!
من الواضح أن المسرحية لم تقع في 'المحظور'، فانتقاد سطوة رجال الدين جاء من خلال إطار الدين المسيحي، كما أن موضوع 'الإلحاد' لم يكن موضوعاً مركزياً، بل مجرد 'تهمة' عابرة وقد تكون غير صحيحة! هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف سيكون شكل الأدب العربي، يا ترى، لو كانت لدى المبدعين العرب حرية مطلقة في التعبير عن إبداعهم الأدبي؟ من الصعب العثور على إجابة مباشرة عن هذا السؤال، فالإبداع الأدبي لا يخضع لقدرتنا على التنبؤ، لكن بإمكاننا على الأقل أن نحصل على إجابة غير مباشرة، من خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض الأمثلة من الأدب العالمي، حيث نشاهد كيف تم انتقاد التراث المسيحي من الداخل، أي على أيدي أبنائه.
في رواية 'الأخوة كارامازوف' لدوستويفسكي، يسرد الأخ الملحد 'إيفان' على أخيه المؤمن 'أليوشا' حكاية تدور أحداثها في مدينة إشبيلية، حيث يعود السيد المسيح من جديد ويتعرف عليه أهل المدينة من خلال أعماله الخارقة للطبيعة، لكن السيد المسيح اختار وقتاً غير مناسب لعودته، فالزمن هو زمن التشدد الديني ومحاكم التفتيش!
وبعد أن ذاع الخبر بين الناس، أصدر رئيس محاكم التفتيش أمراً بالقبض على السيد المسيح وإيداعه السجن! في جنح الظلام، يزور رئيس محاكم التفتيش السيد المسيح في زنزانته ليخبره أن الكنيسة لم تعُد في حاجة إليه، وأن قرار عودته يعرقل المهمة الأساسية لرجال الدين! هذا المقطع من الرواية آية من آيات الأدب الإنساني، لكن ما يهمنا هنا هو معرفة مضمون هذه 'المهمة الأساسية لرجال الدين'، وهذا ما نجده في خطاب رئيس محاكم التفتيش إلى السيد المسيح، حيث يقول: 'لقد أنجزنا المهمة... فالناس تخلوا عن حريتهم طواعية ووضعوها تحت أقدامنا' (أي تحت أقدام رجال الدين)!
في عام 1930، خرجت إلى النور رواية 'سان مانويل بوينو'، للكاتب الإسباني ميغيل دي أونامونو، وتدور أحداثها في قرية جبلية في شمال غرب قشتالة، فيها راهب طيب القلب يحظى باحترام جميع أهالي القرية، لكن ما كان خافياً على الجميع هو أن الراهب نفسه لا يؤمن بوجود حياة بعد الموت، وقد استطاع الراهب أن يخفي سره عن أهالي القرية إلى يوم وفاته، وعذره في ذلك أن الإيمان بحياة أخرى يشيع الطمأنينة في قلوب أهالي القرية، فليس كل إنسان قادر على التسامح مع فكرة الموت من دون وجود ضمانات لحياة أخرى!
من المرجّح أن يكون 'أونامونو' قد استعان بالقصة الحقيقية للأب 'ميسلييه' في كتابة روايته، ففي أوائل القرن الثامن عشر، كان هناك راهب فرنسي يدعى الأب 'جان ميسلييه'، وبعد وفاته، تم العثور على دفتر مذكراته الخاص، وفيه نجد اعترافاً صريحاً بالإلحاد، بل وتمرداً على كل تعاليم الدين!
لست أتوقع قراءة قصص مشابهة في أدبنا العربي المعاصر، فمازال الطريق طويلاً وشاقاً، لكن سيأتي اليوم الذي نقرأ فيه رواية عربية تتحدث عن شيخ دين يُظهر عكس ما يبطن، تماماً مثل الراهب الطيب في رواية 'سان مانويل'! هناك بالطبع حركة إلحادية تاريخية في تراثنا العربي، تحدث عنها الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه الشهير 'تاريخ الإلحاد في الإسلام'، لكني لست في صدد الحديث هنا عن تيارات فلسفية وفكرية، بل أعمال أدبية وفنية.
هناك أيضا كتاب حديث نسبيا منشور تحت عنوان 'محنتي مع...'، ولكن هوية مؤلف هذا الكتاب ليست حقيقية، كما أن الكتاب ليس عملاً أدبياً بالمعنى الحرفي، بل مجرد اعترافات شخصية لأسماء وهمية!
معالجة الأدب للمسائل الدينية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، فالأدب الملتزم لن يجد قضية أكثر إلحاحاً من قضية الدين!
ملاحظة: غدا وبعد غد، سيتم عرض مسرحية 'تاتانيا' على مسرح الدسمة في تمام الثامنة والنصف مساء، وهذه فرصة لمن أراد أن يقضي وقتا ممتعا في مشاهدة عمل أدبي جميل.
يصل إلى القرية المدرس 'رامون'، محاولاً إخراج أهلها من الظلمات إلى النور، لكنه يكتشف صعوبة المهمة التي جاء من أجلها، فأهل القرية أسرى لأوامر القس ونواهيه، يطيعون كلمته ويخشون سطوته!
وبعد محاولات عديدة، ينجح 'رامون'، أو هكذا يظن، في إقناع أهل القرية بالوقوف ضد القس والتمرد على سلطته، فيثور القس غضباً ليتهم المدرس بأنه 'ملحد وكافر وزنديق'، ثم يأمر بالقبض عليه وإيداعه السجن بتهمة إفساد عقول أهل القرية وتأليب قلوبهم ضد تعاليم الرب، وتتوالى الأحداث بعد ذلك إلى أن يكتشف القارئ ما لم يكُن في الحسبان!
من الواضح أن المسرحية لم تقع في 'المحظور'، فانتقاد سطوة رجال الدين جاء من خلال إطار الدين المسيحي، كما أن موضوع 'الإلحاد' لم يكن موضوعاً مركزياً، بل مجرد 'تهمة' عابرة وقد تكون غير صحيحة! هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف سيكون شكل الأدب العربي، يا ترى، لو كانت لدى المبدعين العرب حرية مطلقة في التعبير عن إبداعهم الأدبي؟ من الصعب العثور على إجابة مباشرة عن هذا السؤال، فالإبداع الأدبي لا يخضع لقدرتنا على التنبؤ، لكن بإمكاننا على الأقل أن نحصل على إجابة غير مباشرة، من خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض الأمثلة من الأدب العالمي، حيث نشاهد كيف تم انتقاد التراث المسيحي من الداخل، أي على أيدي أبنائه.
في رواية 'الأخوة كارامازوف' لدوستويفسكي، يسرد الأخ الملحد 'إيفان' على أخيه المؤمن 'أليوشا' حكاية تدور أحداثها في مدينة إشبيلية، حيث يعود السيد المسيح من جديد ويتعرف عليه أهل المدينة من خلال أعماله الخارقة للطبيعة، لكن السيد المسيح اختار وقتاً غير مناسب لعودته، فالزمن هو زمن التشدد الديني ومحاكم التفتيش!
وبعد أن ذاع الخبر بين الناس، أصدر رئيس محاكم التفتيش أمراً بالقبض على السيد المسيح وإيداعه السجن! في جنح الظلام، يزور رئيس محاكم التفتيش السيد المسيح في زنزانته ليخبره أن الكنيسة لم تعُد في حاجة إليه، وأن قرار عودته يعرقل المهمة الأساسية لرجال الدين! هذا المقطع من الرواية آية من آيات الأدب الإنساني، لكن ما يهمنا هنا هو معرفة مضمون هذه 'المهمة الأساسية لرجال الدين'، وهذا ما نجده في خطاب رئيس محاكم التفتيش إلى السيد المسيح، حيث يقول: 'لقد أنجزنا المهمة... فالناس تخلوا عن حريتهم طواعية ووضعوها تحت أقدامنا' (أي تحت أقدام رجال الدين)!
في عام 1930، خرجت إلى النور رواية 'سان مانويل بوينو'، للكاتب الإسباني ميغيل دي أونامونو، وتدور أحداثها في قرية جبلية في شمال غرب قشتالة، فيها راهب طيب القلب يحظى باحترام جميع أهالي القرية، لكن ما كان خافياً على الجميع هو أن الراهب نفسه لا يؤمن بوجود حياة بعد الموت، وقد استطاع الراهب أن يخفي سره عن أهالي القرية إلى يوم وفاته، وعذره في ذلك أن الإيمان بحياة أخرى يشيع الطمأنينة في قلوب أهالي القرية، فليس كل إنسان قادر على التسامح مع فكرة الموت من دون وجود ضمانات لحياة أخرى!
من المرجّح أن يكون 'أونامونو' قد استعان بالقصة الحقيقية للأب 'ميسلييه' في كتابة روايته، ففي أوائل القرن الثامن عشر، كان هناك راهب فرنسي يدعى الأب 'جان ميسلييه'، وبعد وفاته، تم العثور على دفتر مذكراته الخاص، وفيه نجد اعترافاً صريحاً بالإلحاد، بل وتمرداً على كل تعاليم الدين!
لست أتوقع قراءة قصص مشابهة في أدبنا العربي المعاصر، فمازال الطريق طويلاً وشاقاً، لكن سيأتي اليوم الذي نقرأ فيه رواية عربية تتحدث عن شيخ دين يُظهر عكس ما يبطن، تماماً مثل الراهب الطيب في رواية 'سان مانويل'! هناك بالطبع حركة إلحادية تاريخية في تراثنا العربي، تحدث عنها الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه الشهير 'تاريخ الإلحاد في الإسلام'، لكني لست في صدد الحديث هنا عن تيارات فلسفية وفكرية، بل أعمال أدبية وفنية.
هناك أيضا كتاب حديث نسبيا منشور تحت عنوان 'محنتي مع...'، ولكن هوية مؤلف هذا الكتاب ليست حقيقية، كما أن الكتاب ليس عملاً أدبياً بالمعنى الحرفي، بل مجرد اعترافات شخصية لأسماء وهمية!
معالجة الأدب للمسائل الدينية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، فالأدب الملتزم لن يجد قضية أكثر إلحاحاً من قضية الدين!
ملاحظة: غدا وبعد غد، سيتم عرض مسرحية 'تاتانيا' على مسرح الدسمة في تمام الثامنة والنصف مساء، وهذه فرصة لمن أراد أن يقضي وقتا ممتعا في مشاهدة عمل أدبي جميل.
هناك تعليق واحد:
أنا سعيد للغاية لأنني حصلت على قرضي من السيدة كايلا أبو بكر الآن حياتي عادت إلى طبيعتها ، وعملي يسير بسلاسة بفضل السيدة كايلا أبو بكر يمكنك الاتصال به إذا كنت بحاجة إلى قرض اليوم؟ أرسله بالبريد الإلكتروني عبر: (financierlibertycapitals@gmail.com)
إرسال تعليق