المؤرخ الإغريقي الشهير "هيرودوتس" كتب يقول: "عليّ أن أنقل ما قيل لي، لكن لا أراني ملزما بتصديق كل ما قيل لي" ليس من المستغرب أن تصدر هذه الروح النقدية من كاتب إغريقي ينتمي إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ففي ذلك العصر، عصر سقراط و تلميذه أفلاطون، كانت مخاطبة العقول هي السمة البارزة لتلك النزاعات الفكرية التي لا احتكام فيها إلا للعقل الإنساني وحده. في دفاعه عن نفسه أمام قضاته، يقول سقراط: "إن الحياة التي لا نضعها قيد الاختبار لا تستحق أن نعيشها"، و لم يكن ذلك الاختبار سوى التفكير النقدي. كان للإغريق آلهة بعدد حبات الرمال، و كان لكل إله ميدان يقع ضمن اختصاصه، فهذا إله الحرب، و ذاك إله التجارة، و الآخر إله الزراعة، و هذه التشكيلة الإلهية تشترك في وظيفة واحدة: تقديم تفسير للظواهر الطبيعية و الأحداث التاريخية. مع بداية القرن الخامس قبل الميلاد، برز جيل جديد يبشر بعهد جديد، فهو و إن لم يهاجم معتقدات المجتمع الأثيني من حيث الإيمان بوجود آلهة، إلا أنه قلّص من فكرة الاعتماد على الآلهة لتقديم تفسير لكل شيء، وساهم في إرساء قواعد التفكير المنظم الذي أدى لاحقا إلى وضع أسس علم المنطق على يد أرسطو. لكن ماذا نعني تحديدا بمفهوم "التفكير النقدي"؟ و هل نحن في حاجة إليه؟
التفكير النقدي هو نشاط عقلي يتصف بالتنظيم و تحكمه قوانين مجردة مثل قوانين الاستدلال و الاستنتاج، و الهدف منه هو اختبار صحة أية معلومة يستقيها الفرد من محيطه الخارجي، و في حالة اجتياز هذا الاختبار تنتقل هذه المعلومة لتكوّن جزءا من نظرة الفرد للعالم من حوله. لهذا السبب بالذات فإن التفكير النقدي هو المسؤول عن تكوين نظرة متناسقة و متماسكة للعالم الخارجي من حولنا. ليس المقصود بطبيعة الحال تطبيق الشك الديكارتي بطريقة حرفية، فهذا المذهب في الشك مستحيل من الناحية العملية و ذلك باعتراف ديكارت نفسه، و هو أيضا مستحيل من الناحية النظرية، ذلك أن الشك في أية معرفة مكتسبة يتضمن وجوداً مسبقاً لمعيار من المعرفة الأولية نستطيع من خلاله تقييم هذا الشك. إنما المقصود هو محاولة إخضاع أكبر قدر من المعلومات المكتسبة لاختبار التفكير النقدي، و على الأخص تلك التي لها علاقة بقرار مصيري أو أثر بالغ على حياة الفرد.
إن تكوين نظرة للعالم من حولنا يعتمد في الأساس على تلقي معلومات أولية عن هذا العالم و تخزينها في الذاكرة، و عملية التلقي هذه اتخذت أشكالا مختلفة حسب مراحل تطور العنصر البشري. في مرحلة أولية، كان الإنسان البدائي يعتمد على حواسه الخمس في جمع المعلومات الأولية حول المحيط الخارجي الذي هو جزء منه، و مع نشوء اللغة في مرحلة لاحقة، أصبح الإنسان قادرا على التعبير عن هذه الصورة الذهنية للعالم الخارجي و نقلها أيضا لبني جنسه. لاحظ أن عملية نقل الصورة من إنسان إلى إنسان تتضمن أيضا فكرة أننا لم نعد نعتمد فقط على حواسنا الخمس في تكوين نظرتنا الخاصة للعالم من حولنا، فاللغة ذاتها أصبحت أداة إضافية لتكوين هذه الصورة.. نشوء اللغة كأداة اتصال، عن طريق التخاطب أولا، ثم عن طريق الكتابة و القراءة لاحقا، ساهم في توسيع مدى نظرة الإنسان لصورة العالم من حوله، لكن الإنسان لم يكن ليكتفي بعطايا الطبيعة و هباتها، فحاول أن يبحث عن طرق أخرى لفهم هذه الطبيعة و تكوين صورة أكثر وضوحا عنها، و كانت أولى الطرق الجادة للوصول إلى هذا الهدف هي معالجة القصور الطبيعي في حواسه الخمس، فأنتج المجهر، و الهاتف، وصولا إلى أحدث المخترعات التقنية في عصرنا الحاضر. من هنا نستنتج أن هناك علاقة تناسب طردي بين مقدار الأدوات التي نعتمد عليها في تكوين نظرتنا للعالم من حولنا، و بين حجم هذه الصورة ذاتها و مدى اتساعها. لكن ما مدى أهمية التفكير النقدي في تشكيل نظرتنا للعالم المحيط بنا؟
كي نجيب عن هذا السؤال بطريقة مرضية، يكفي فقط أن نتخيل غياب ملكة التفكير النقدي و أثر هذا الغياب على حياة الفرد و نظرته للعالم من حوله. أدق تشبيه كوصف لهذه الحالة سمعته من زميل دراسة حين قال: "العقل المحروم من التفكير النقدي أشبه بجهاز كمبيوتر ليس فيه برنامج مضاد للفيروسات، فهو عندئذ يصبح معرضا لاستقبال كم هائل من المعلومات دون أدنى اختبار لسلامة هذه المعلومات!" إن أقوالنا و أفعالنا و القرارات التي نتخذها في حياتنا تعتمد كلها على الصورة التي في أذهاننا للمحيط الخارجي، لذا فإن التأكد من سلامة هذه الصورة هي عملية في غاية الأهمية، و ليس هناك سلاح أكثر فعالية من سلاح التفكير النقدي لتحقيق هذا الغرض·
غياب العقل يؤدي إلى سلسلة طويلة من ألوان الاستعباد: أنت عبد للشهوات لأنك لا تملك عقلا يمكنك من السيطرة عليها، و أنت عبد للنظام السياسي لأنك لا تمتلك الأدوات النقدية التي تختبر من خلالها مشروعية هذا النظام، وأنت عبد للنظام الاجتماعي لأنك تفتقر إلى طريقة منطقية لتحليل العادات و التقاليد التي اكتسبتها بالوراثة، وأنت عبد لنظام أيديولوجي لأنك لا تملك الجرأة على وضع هذا النظام تحت مجهر التفكير النقدي، و أنت عبد للاستهلاك و جشع التجار لأنك تفتقد إلى معيار منطقي تحدد من خلاله احتياجاتك الضرورية!
كن أسيرا للعقل، فهو الوحيد إن استعبدك حرّرك!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
التفكير النقدي طريق الخلاص
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليقان (2):
كلام منطقي جدا جدا وقوي لكن بحسب العقل وقدرته في التحليل والنقد لكن يلزم مع العقل الإيمان لأن العقل محدود ومقيد بعالم حسي ملموس وبدون إيمان لن يذهب بعيدا في تصوره للأشياء وبالإيمان تفتح لديه كل الآفاق . والمثال البسيط للطرح هنا مسألة الغيبيات مهما تكلمت فيها وشرحت وناقشت تبقى غيبيات عن التصور والخيال العقلي ولكي يخلص المرء وينجو بعقله من كل شبهة أو تصور خاطئ يسلم ويؤمن بأن ذلك حق وبذلك يحسن إسلامه وإيمانه بربه ونبيه ودينه.
هذا دون تنقص لما طرح في الموضوع ويبقى التعليق لصاحبه
أنت مشكور يا دكتور على تصورك لأهمية التفكير النقدي ودوره في تجلية الحقائق ورفض الضبابية، واستعانتك بقول زميل لك بأن التفكير النقدي يشبه برنامج كمبيوتر للفيروسات المضادة للحفاظ عمّا هو مفيد وطرد ما هو ضار،هذا الإعجاب يدلّ على الإدراك العميق لجوهر الشيْ، فالنقد يحتاج إلى قوّة ذهنية هائلة وإلى دراية كاملة في المجال الذي نمارس النقد فيه،فواضع البرنامج الخاص بايقاف خطر الفيروسات علي الكومبيوتر له إحاطة بمجال البرمجيات ،إن لم نقل تجاوز لما هو موجود ،والأمر نفسه عند الناقد(حامل الحقيقة وحاميها)عليه بتحصيل الوعي العميق الذي يسمح له بفلترة الفكر وتبيان الشوائب التي لحقت به، وعليه أن يكون ذلك الأمين الذي لا يخاف في قول الحق لومة لائم، لا يحتكم إلّا لضميرة وصوت العقل وقواعد المنطق السليم،حتى يحفظ الحقيقة التي ترفع من قيمته وتأخذ بيد أمّته نحو السلامة والحكمة.
إرسال تعليق