يوم الخميس الماضي، ختم رجال الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية مؤتمرهم السنوي بتوصية موجهة إلى الكاثوليك الإسبان، وجاء على لسان رئيس المؤتمر الأسقف «خوان أنطونيو مارتينث» أن الهدف من التوصية هو «توجية الكاثوليك حول كيفية الإدلاء بأصواتهم الانتخابية» في الانتخابات البرلمانية العامة، والتي ستعقد في يوم 9 مارس القادم، وعلى الرغم من أن التوصية لم تأت على ذكر أي جهة سياسية، فمن الواضح أنها كانت تهدف إلى توجيه أصوات الناخبين لدعم الحزب الشعبي المحافظ الذي يقف في صفوف المعارضة، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة من طرف حزب العمال الاشتراكي الحاكم بقيادة «خوسيه لويس ثاباتيرو».
عشية صدور هذه التوصية، أدلى «ثاباتيرو» بتصريحات عنيفة ضد الأساقفة الإسبان، جاء فيها أن الشعب الأسباني «سيلفظكم ولن يقبلكم كما لفظ من قبل راخوي»، في إشارة إلى خسارة رئيس الحزب الشعبي في الانتخابات الرئاسية السابقة، وأن «ليس من حق أي جهة أن تفرض معتقداتها وأخلاقياتها وأعرافها على الآخرين، عدا فرض احترام قوانين الدولة على الجميع»، ثم يوجه «ثاباتيرو» كلامه إلى الشعب الإسباني، بصورة يشوبها شيء من الدعاية الانتخابية له ولحزبه، قائلاً: «قبل حلول يوم التاسع من مارس (موعد الانتخابات)، على المواطنين أن يدركوا أن دعمهم لي ولحزبي يعني دفاعاً عن وطن يتسع للجميع، وعن مجتمع متسامح وحر، يكفل لكل فرد أن يفكر كيفما شاء، وأن يعيش حسب معتقداته الشخصية» (انظر صحيفة «إلباييس» الإسبانية، يوم 1 فبراير 2008)، ثم يختم رئيس الحكومة حديثه مؤكداً أن «جوهر التعايش الحر يعني أن يشعر الجميع بحريتهم، وجوهر التعايش الديموقراطي يعني احترام المعتقدات كلها من دون استثناء، وجوهر الحرية بمعناها العميق والأصيل هو أن ليس من حق أحد، أياً كان، أن يفرض نظامه الأخلاقي ومعتقداته على الآخرين» (انظر المصدر السابق).
إلى جانب رئيس الحكومة، انضم وزير العمل والشؤون الاجتماعية «خيسوس كالديرا»، الذي جاء هجومه على رجال الكنيسة أكثر عنفاً وأشد قسوة، حيث صرح قائلاً: «إن بعض الأساقفة بعيد جداً عمّا يفكر فيه المسيحيون في إسبانيا، لكنه قريب جداً ممّا يدور داخل أروقة الحزب الشعبي»، (انظر صحيفة «إلموندو» الإسبانية، يوم 4 فبراير 2008). صحيفة «إلباييس» الإسبانية أدلت هي الأخرى بدلوها في هذه القضية، وسأنقل إلى القارئ ما جاء على لسان هذه الصحيفة في يوم 1 فبراير 2008:
«لسنا ضد حق الأساقفة في أن يعبروا عن رأي ديني في الحياة السياسية، لكننا نريد أن نلفت انتباههم إلى أنهم، على العكس من بقية المواطنين الأسبان، يمتلكون مكاناً خاصاً بهم وحدهم يستطيعون فيه أن يعبروا عن آرائهم، وهذا المكان هو الكنيسة. إذا قرّر الأساقفة الابتعاد عن هذا المكان، كما حدث بالأمس عندما أصدروا توصيتهم تلك، فعليهم أن يلتزموا بقوانين الدستور كبقية المواطنين. عندما يتعلق الأمر بالشأن السياسي، فإن الأساقفة ليسوا أوصياء على إرادة أي مواطن، وليس من حقهم الادعاء بأنهم هم وحدهم من يمتلك الحقيقة».
على الطرف الآخر، أدلى زعيم المعارضة ورئيس الحزب الشعبي «ماريانو راخوي» بتصريح اتهم فيه رئيس الحكومة بأنه «أسير لنوبة عصبية» وأنه «يختلق مشكلات لا وجود لها على أرض الواقع» (انظر صحيفة «إلموندو» الإسبانية، يوم 4 فبراير 2008)، كما طالب الناطق الرسمي للحزب الشعبي «إدواردو ثابلانا» حكومة «ثاباتيرو» بأن تتذكر موقفها من الترحيب بالموقف الرافض للكنيسة الكاثولوكية من الحرب على العراق، وهو ترحيب يشير إلى أن الحكومة لم تكن تمانع تدخل رجال الكنيسة بالسياسة ما دامت آراؤهم متطابقة مع رأي الحكومة! (انظر المصدر السابق).
في استطلاع للرأي العام الإسباني أجراه معهد DYM حول هذه القضية، أشارت نتيجة الاستطلاع إلى أن 59 في المئة من الشعب الإسباني تؤيد امتعاض الحكومة الإسبانية من تدخل رجال الكنيسة في شؤون السياسة، وهي نتيجة تعكس بلا شك انقسام الشارع الإسباني حول طبيعة العلاقة بين الدين والدولة. كي نتعرف على جذور هذه القضية، علينا أن نشير إلى المادة 16 (الفقرة 3) من الدستور الإسباني، وأن نتطرق إلى العلاقة التاريخية للكنيسة الكاثوليكية بالشأن السياسي الإسباني، وأن نبحث عن مصادر دخل الكنيسة وحجم المعونات الاقتصادية التي تتلقاها من الحكومة الإسبانية، وأن نستمع إلى رأي المثقفين ورجال القانون الإسبان حول علاقة الدين بالدولة في المملكة الإسبانية، وهذه أمور سنتطرق لها في مقالنا القادم.
الأربعاء، 29 يوليو 2009
الدين والدولة: قضية ساخنة في إسبانيا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق