هناك احتمالان لكل طالب يعود من الخارج: إما أن يعود بشيء جديد، وإما أن يكون امتداداً لشيء قديم، ويؤسفني أن أقول إن الاحتمال الثاني هو الأكثر انتشاراً لأسباب كثيرة، لعل أهمها انتشار الحركات الفكرية الرجعية منذ أكثر من عقدين من الزمن على أقل تقدير، وعدم الاستفادة من تجربة الدراسة في الخارج، وتحويلها إلى تجربة حياتية شاملة! عندما تعصف بالمجتمع الكويتي مشكلة طائفية، مثلا، فإن بالإمكان سماع صدى هذه المشكلة وتلمس انعكاساتها السلبية على التجمعات الطلابية في الخارج، وهذا مؤشر واضح على حقيقتين: 1 - معظم طلبة الخارج ليس سوى امتداد للمجتمع الذي خرج منه، 2) فشل معظم طلبة الخارج في خوض تجربة حياتية جديدة يعيد من خلالها تقييم كل ما تعلمه في مجتمعاته الأصلية!
الدراسة في الخارج فرصة تتيح للطالب أو الطالبة التفكير بهدوء وعقلانية بعيداً عن البيئة الأم وترسباتها، إنها بمنزلة اختبار حقيقي لكل فكرة تقليدية اكتسبناها عن طريق التلقين، وما أكثر الأفكار التي تم اكتسابها عن طريق التلقين!
تعلم لغة أجنبية يعتبر محصلة طبيعية لفكرة الدراسة في الخارج، وهناك وجهان لعملية الاستفادة من اللغة كأداة معرفية نستطيع من خلالها التعرف على حضارات الشعوب الأخرى، الوجه الأول سطحي، فهو يتعلق باستخدام اللغة كوسيلة للمحادثة، وهي الوسيلة التي تتيح لنا عقد صداقات متنوعة مع أهل البلد المضياف، والتعرف على طرق تفكيرهم، لكن علينا ألا نغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الفهم الأصيل لأي حضارة لا يتيسر إلا عن طريق الرجوع إلى جذور هذه الحضارة، وهذه الحقيقة تقودنا إلى الوجه العميق من عملية الاستفادة من اللغة كأداة معرفية، وأعني به استخدام اللغة كوسيلة للقراءة. إذا أردنا أن نفهم الغرب، مثلاً، فعلينا دخول مكتباته العامة وقراءة تاريخه، ذلك أن السلوك اليومي لأهل الغرب ليس سوى انعكاس لمئات السنين من التطورات التاريخية الموضوعية. لنضرب بعض الأمثلة حتى تتضح الصورة.
إذا أراد أحدنا معرفة السبب وراء تعايش الأديان كلها بسلام داخل الأراضي الأميركية، فعليه أن يرجع إلى التاريخ السياسي الأميركي، والتعرف على حكمة رجال عظماء من أمثال ماديسون وجيفرسون، فإليهم يرجع الفضل في وضع دستور أميركي يفصل بين الدين والدولة! ولنأخذ مثالاً آخر، فمن المعروف أن النساء في الولايات المتحدة الأميركية يتمتعن بمستوى من الحرية يفوق بكثير المستوى الذي تعيشه نساؤنا في الشرق، والتفسير الشائع لهذه الحرية، مع الأسف الشديد، هو شماعة «الانحلال الأخلاقي»، وعادة ما يقوم التيار الرجعي في بلداننا بترويج مثل هذا التفسير المغلوط وغير الموضوعي، لكن إذا أردنا فهماً حقيقياً لحرية المرأة الغربية بشكل عام، فعلينا العودة إلى تاريخ الخمسينيات من القرن الماضي، فتلك الحقبة شهدت ظهور تيارات مدنية عصفت بالمجتمع الغربي، وأجبرت السلطة السياسية على الاعتراف بحقوقها المشروعة، ومن شعارات تلك المرحلة هي المطالبة بتحرير السود والعدالة والمساواة في التعامل مع قضايا المرأة! تلك الحركات المدنية لم تكن حركات مجانية تدفعها الرغبة الرخيصة واللذة الدنيئة والانحلال الأخلاقي، بل كانت حركات أصيلة دفع أصحابها حياتهم من أجلها، وقدموا في سبيلها الكثير من التضحيات! ما نراه اليوم من متاجرة رخيصة بجسد المرأة لا يعد سبباً من أسباب تحرير المرأة من الرجل، بل إنه مظهر من مظاهر استثمار الغريزة في مجتمع رأسمالي لايرحم، مجتمع لا يهم فيه كيف تربح، بل المهم أن تربح!
مضى على تلك اللحظة التي غادرت فيها الكويت لطلب الدراسة في الخارج قرابة خمسة عشر عاماً، قضيتها في التنقل من بلد إلى آخر، ولو استطعت إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، لما اخترت غير هذا الطريق، طريق الدراسة والتعلم والبحث والتقصي والفضول، فأي فرصة أعظم من أن تكون طالباً في الخارج؟!
ينشر بالتزامن مع مجلة نبراس الطلابية، http://nebras.nuks.org
الأربعاء، 29 يوليو 2009
فرصة الدراسة في الخارج
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق