الفرد المخلص في إيمانه بالنهج الديمقراطي يجد نفسه ملزما في اختيار إحدى طريقتين للتعامل مع دستور 62: إما طريقة عملية برجماتية، و إما طريقة نظرية عقلانية. الأولى تستند إلى مفهوم "الهدف الممكن" وتقود إلى شعار "إلا الدستور"، والأخرى ترتكز على مبدأ "الحقيقة المجردة" وتفضي إلى شعار "حتى الدستور"· أريد أولا أن أسلط الضوء على هاتين الطريقتين في التعامل مع دستور 62، وأرغب ثانيا في التوصل إلى تسوية بينهما.
شعار "إلا الدستور" يشير إلى المحافظة على الحد الأدنى من مفهوم الديمقراطية، وهو الحد المتمثل في دستور 62، وأصحاب هذا الشعار أناس ذوو آمال قصار وطموحات متواضعة، فهم يدركون تماما خريطة الواقع السياسي وإلى صالح من تميل موازين القوى في الوقت الراهن! بالنسبة إلى أنصار هذا الشعار، فكرة تعديل الدستور سلاح ذو حدين، وفي ظل قراءتهم للواقع السياسي فإن فتح باب التعديل سيجعل من فرصة الانقضاض على الدستور أكبر بكثير من فرصة الارتقاء به إلى "المزيد من ضمانات الحرية والمساواة"· ليس لدي أدنى شك في قدرة أصحاب هذا التصور على قراءة الواقع والاتعاظ من النكبات السابقة، لكني أشك في استناد مخاوفهم من تعديل الدستور إلى حجج منطقية. أولا، إن من يرفع شعار "إلا الدستور" ثم يقف ضد مبدأ التعديل أو التنقيح يقع في تناقض واضح، فالمادة 175 تجيز هذا المبدأ بشرط أن يؤدي التعديل إلى زيادة سقف الحرية والمساواة. ثانيا، التخوف من أن يؤدي تعديل الدستور إلى تعطيل الدستور يكون منطقيا فقط في حالة افتراض أن جميع مواد الدستور مطبقة بحذافيرها، وهو افتراض يناقض الواقع، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى! أخيرا، إذا كانت موازين القوى السياسية ستحيل التعديل إلى تعطيل، وإذا كانت الموازين نفسها هي السبب في تعطيل أبرز مواد الدستور، فما الذي يجعل أنصار "إلا الدستور" يفترضون نجاح حملتهم ضد قوى سياسية بهذه الضخامة والقوة؟ لماذا يكون التفاؤل مشروعا في حالة الدفاع عن عودة مجلس الأمة، ويكون محرما في حالة الدفاع عن حريات التعبير والعقيدة والتعليم؟ مجرد لحظة صدق مع النفس ستكون كافية لاستبدال شعار "إلا الدستور" بشعار "إلا المجلس"!
نأتي الآن إلى شعار "حتى الدستور"، وهو شعار يقف خلفه فريقان متناقضان: فريق مخلص في إيمانه بالنهج الديمقراطي، وفريق مخادع ومناوئ للديمقراطية، وحملة "إلا الدستور" مشفقة على الفريق الأول، متوجسة من الفريق الثاني! على أية حال، من يعنيني هنا هم فقط أولئك الذين يؤمنون بأفكار "جون لوك" ويدافعون بكل صدق عن مفهوم الديمقراطية بمفهومها الشامل. هؤلاء يرفعون شعار "حتى الدستور" للتأكيد على ضرورة استكمال تطبيق الديمقراطية الشاملة، فهم أشخاص لا يترددون في الإشارة إلى الأشياء بأسمائها، فالديمقراطية على الطريقة الكويتية بالنسبة لهم ديمقراطية مشوهة ومنقوصة، والقانون في نظرهم هو نتاج الفكر الإنساني وليس العكس! أصحاب شعار "حتى الدستور" يرون أن المؤسسين الأوائل كسائر البشر غير معصومين من الخطأ، وأن دستور 62، رغم عبق الماضي بين دفتيه، ينفي عن نفسه صفة الكمال المطلق والقدسية الزائفة ويتيح لنا تطويره مع توصية حكيمة تضمنتها المادة 175، لا أخفي تعاطفي مع أصحاب هذا الرأي، فأنا أحدهم، لكني سأحاول التحلي بالموضوعية لأشير إلى موطن الضعف في هذا الجانب. الدستور كوثيقة قانونية هو نتيجة حراك اجتماعي يسبقه زمنيا، ووظيفة هذا الدستور هو توثيق إرادة القوى الغالبة كمحصلة لهذا الحراك، من هنا فإن الدعوة إلى تعديل الدستور لضمان حريات أكبر تفترض وجود مسبق لحراك اجتماعي يدفع في اتجاه هذا النوع من التعديل، ولكن الواقع كما نعلم جميعا ينفي صحة هذا الافتراض!
أنصار "إلا الدستور" يطمعون بالحد الأدنى من الحرية بمفهومها السياسي، وأنصار "حتى الدستور" من المخلصين يطالبون بالحد الأقصى من الحرية بمفهومها الشامل، لكن هل بالإمكان التوصل إلى تسوية بين الطرفين؟ هناك نقطة ينبغي الانتباه لها وهي كالتالي: عدم تطبيق دستور 62 بجميع مواده يجعل من شعار "إلا الدستور" خطوة متأخرة جدا، ومن شعار "حتى الدستور" خطوة مبكرة جدا! من يقف الآن ضد انتهاك الدستور يتناسى كم عمر هذا الانتهاك، ومن يطالب بتطويره يغض النظر عن عدم تطبيق الدستور أساسا! كلا الشعارين لا يذكران الحقيقة كاملة، فالأول ينبغي أن يكون "إلا الدستور بجميع مواده"، والآخر "حتى الدستور في حالة تطبيقه"· محاولة إصلاح أخطاء الماضي والرغبة بمستقبل أفضل عمليتان متلازمتان، وليس من الحكمة الفصل بينهما. الطموح المشروع في تطوير الدستور إلى مزيد من الحريات لا يمكن فصله عن العمل الجاد في تطبيق الدستور بمواده كافة.
"إلا الدستور" و"حتى الدستور" شعاران يكمّل أحدهما الآخر، ومدى نجاح كل شعار مرهون فقط بنجاح الشعار الآخر!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
إلا الدستور ... وحتى الدستور!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق