مشاهدة التلفاز والذهاب إلى السينما و'لعب الورق'، كلها متع مجانية لا تتطلب سوى القدرة على التركيز والانتباه، لكن هناك متعة من نوع آخر، متعة غير مجانية على الإطلاق، فالثمن الذي يجب أن تدفعه قبل التلذذ بهذه المتعة هو القراءة، وسأتناول من خلال هذا المقال بعض الأمثلة حول هذه المتعة غير المجانية.
قد تذهب في نزهة للاستمتاع بجمال الطبيعة، وهو استمتاع مقصور فقط على المشاهدة السطحية لما حولك، لكن عندما تقرأ كتابا حول علاقة الطبيعة بالرياضيات، مثلا، فإن نزهتك في رحاب الطبيعة سيكون لها طعم آخر! ستتيح لك القراءة التعرف على أرقام تعرف باسم 'فيبوناتشي'، وهي عبارة عن مجموعة لا متناهية من الأرقام على النحو التالي: 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34، 55، 89، ...
لو دققنا في هذه الأرقام، سنجد أنه ابتداء من العدد الثالث، كل عدد يساوي حاصل جمع العددين الذين يسبقانه في التسلسل، ولو عدت الآن إلى نزهتك في رحاب الطبيعة، فستجد أن هذه الأرقام تملأ المكان من حولك! مثلا، لو فحصت حبّات عبّاد الشمس، ستجد أن 34 حبة تلتف بشكل دائري مع عقارب الساعة، و 55 حبة تلتف عكس عقارب الساعة، وكلا الرقمين ينتمي إلى مجموعة أرقام 'فيبوناتشي'! زهرة الزنبق لها 3 بتلات، ونبات الحوذان (نبات بري أصفر) له 5 بتلات، ونبات العائق له 8 بتلات، ونبات الذريون له 13 بتلة، ونبات النجمية له 21 بتلة، وزهرة الربيع لها 34 بتلة أو 55 بتلة أو 89 بتلة، وكل هذه الأرقام هي أرقام 'فيبوناتشي'! لو نظرت إلى الأشجار من حولك، فستجد أن أوراقها مرتبة بنسب 1 إلى 3، أو 2 إلى 5، أو 3 إلى 8، أو 5 إلى 8، أو 8 إلى 13، وكلها كما نلاحظ أرقام 'فيبوناتشي'، وأما التفسير العلمي لميل الأشجار إلى ترتيب أوراقها بهذا الشكل فيعود إلى حقيقة أنه الترتيب الأمثل الذي تتمكن من خلاله كل أوراق الشجر من استقبال أشعة الشمس بشكل متساو!
عندما تنتهي من نزهتك في رحاب الطبيعة، قد تقرر زيارة دار الأوبرا، وأغلب الظن أنك ستشعر بشيء من استهجان من هذه الأصوات الغريبة والصاخبة وربما المضحكة أيضاً! لكن عندما تقرأ كتاباً حول تاريخ الأوبرا، فإن هذه الأصوات، التي بدت لك في أول الأمر غريبة وصاخبة ومضحكة، سيكون لها طعم آخر! ستتيح لك القراءة التعرف على نشأة الأوبرا وارتباطها بفكرة إحياء التراجيديا الإغريقية إبان عصر النهضة الإيطالية، وستعرف أيضا أن أصوات الأوبرا درجات مختلفة، منها ما هو مقصور على النساء، ومنها ما هو مقصور على الرجال، وستجد أن كل شخصية في الأوبرا لها صوت مرتبط بملامح هذه الشخصية، لكن الأهم من ذلك كله هو أنك ستكتشف أن الأوبرا ليست سوى مزيج مدهش من العواطف الإنسانية التي لا تقتصر على جنس واحد أو شعب واحد أو حضارة واحدة! لكل أوبرا نص مكتوب، ولو قمت بقراءة النص قبل الذهاب إلى دار الأوبرا، فلن تفوتك فرصة الاستمتاع بالعرض. لنفترض، مثلا، أنك قرأت نص أوبرا Rigoletto قبل مشاهدة العرض، ففي هذه الحالة لن تسمع أصواتا غريبة ومضحكة، بل ستتمكن من مشاهدة هذا الدوق الفاسد وحاشيته الوضيعة، وسترى كيف تحل اللعنة على من سوّلت له نفسه العبث بأعراض الناس، وستشاهد كيف يؤدي الحب الأرعن والمجنون إلى درب الهلاك والضياع، وستسمع صيحات الأب المفجوع بموت ابنته!
تنتهي الأوبرا وتقرر بعد ذلك زيارة المتحف، وهنا أيضاً متعة غير مجانية، فقد تقف أمام لوحة ساعات بطولها وعرضها من دون أن تدرك مغزاها، لكن عندما تستعين بالقراءة لفك طلاسم اللوحة، فإن هذا العمل الفني الذي أمامك سيكون له طعم آخر! لنفترض، مثلا، أنك قرأت شيئا حول أعمال الرسام الإيطالي 'برونزينو'، ثم ذهبت بعد ذلك إلى متحف 'ناشونال جاليري' في لندن، ووقفت أمام لوحة 'فينوس، وكوبيدو، والجنون، والزمن'، ففي هذه الحالة لن تشيح بوجهك عن هذه الأجساد العارية كما في اللوحة، بل ستدرك المغزى العميق لهذه التحفة الفنية العظيمة! ستبدأ أولا بحل ألغاز اللوحة الواحد تلو الآخر، فهذا الصبي العاري ذو الجناحين يجسد شخصية 'كوبيدو'، والمرأة التي بجانبه هي أمّه 'فينوس'، والشيخ العجوز الذي يحمل على ظهره ساعة رملية يرمز إلى 'الزمن'، والطفل ذو الوجه البشوش يرمز إلى 'اللذة'، والفتاة التي لها جلد أفعى ترمز إلى 'الخديعة'، والعجوز الساحرة ترمز إلى 'الغيرة'، والمرأة التي تنظر نظرة حزن وحيرة ترمز إلى 'الحقيقة'! كل هذه المشاعر الإنسانية المصاحبة لموضوع 'الحب المحرّم' تجدها أمامك مجسّدة في هذه اللوحة!
القراءة ليست متعة فحسب، بل هي متعة تجلب العديد من المتع!
الجمعة، 31 يوليو 2009
عندما تكون القراءة شرطاً للاستمتاع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق