استصدار أعداد إضافية من ايصالات الإيداع يشير إلى قدرة صائغي الذهب على «خلق المال من لا شيء»، وخلق المال يتجلى بوضوح في وقتنا الحاضر من خلال قدرة البنوك على منح قروض تتجاوز في حجمها كل أموال الإيداع الموجودة في حسابات هذه البنوك!
في المقال السابق، تناولنا ظروف نشأة فكرة «المال» كسلعة تسمح لمن يقتنيها الحصول على أي سلعة أخرى، و تحدثنا عن بروز «الذهب» بوصفه الوسيلة المعتمدة من قبل أغلب شعوب الأرض للقيام بكل أنواع التبادل التجاري، ثم انتهينا إلى الحديث عن دور صائغي الذهب في وضع الحجر الأساس للنظام المصرفي بشكله الحالي، ونريد من خلال هذا المقال أن نتحدث بشيء من التفصيل حول النقطة التي انتهينا عندها، لكن سأحاول في البداية تذكير القارئ بأهم النقاط التي وردت في مقالنا السابق حول عملية الأيداع:
1 - يودع الأفراد أموالهم من الذهب عند صائغ الذهب، ثم يستلمون «إيصال إيداع» بقيمة الذهب الذي تم إيداعه، ويحق لكل فرد استرجاع ممتلكاته في أي وقت يشاء، بينما يتلقى صائغ الذهب أجرة بسيطة نظير توفير هذه الخدمة.
2 - مع مرور الوقت، بدأ الناس في استخدام إيصالات الإيداع مباشرة في تعاملاتهم التجارية، فبدلا من الذهاب إلى صائغ الذهب لاستعادة أموالهم قبل كل عملية شراء، كان من الأسهل استخدام إيصال الإيداع مباشرة لتلبية حاجاتهم اليومية.
3 - بعد أن اعتاد الناس على استخدام ايصال الإيداع في تعاملاتهم التجارية، لاحظ صائغ الذهب أن أغلب الناس لا يأتي إلى المستودع لاسترجاع الذهب إلا بعد مرور مدة طويلة، مما يعني أن الفرصة متاحة أمام الصائغ لاستثمار أموال الناس من الذهب لمصلحته الخاصة!
لكن كيف يستثمر صائغ الذهب ودائع الناس لمصلحته الخاصة؟ بإمكانه أن يقوم بإقراض الذهب مباشرة، وبعد مرور مدة من الوقت، يستعيد الذهب مع قيمة الفوائد، ولكن هناك طريقة أكثر ذكاء ولا تحتاج إلى انتقال الذهب خارج المستودع، وهي أن يقوم الصائغ باستصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع وتقديمها على شكل قروض، وهذا بالضبط ما فعله صائغو الذهب، ولم تكن هذه الطريقة لتنجح لولا استخدام الناس إيصالات الإيداع بشكل مباشر في تعاملاتهم التجارية! لكن ما هي الأمور التي تترتب على قيام صائغ الذهب باستصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع؟
أولاً، لم يعد الصائغ مقتصراً على تقديم خدمة الإيداع، بل تجاوز ذلك إلى توفير خدمة الإقراض، ومن جرّاء هذا التمازج غير المشروع بين الإيداع والإقراض نشأت فكرة «البنك»، لكن من المهم هنا الانتباه إلى الحقيقة التالية، وهي أن الإيداع والإقراض عمليتان مختلفتان تماماً، لكل منهما تاريخ منفصل عن الآخر، ولكن صائغي الذهب كانوا أول من ساهم في الخلط غير المشروع بين هاتين العمليتين، لذا فإننا لا نبالغ لو قلنا إن فكرة «البنك» كانت ثمرة عملية احتيال، ذلك أن الأمر الجوهري هنا هو أن الصائغ لا يقدم قروضا من ماله الخاص!
ثانياً، استصدار أعداد إضافية من ايصالات الإيداع يشير إلى قدرة صائغي الذهب على «خلق المال من لا شيء»، وخلق المال يتجلى بوضوح في وقتنا الحاضر من خلال قدرة البنوك على منح قروض تتجاوز في حجمها كل أموال الإيداع الموجودة في حسابات هذه البنوك! لكن الأمر الخطير هنا هو أن مَن يملك التحكم في تحديد كمية المال في أي مجتمع، فإنه سيملك أيضا القدرة على التحكم في توجيه القرار السياسي.
ثالثاً، عندما يكون عدد الإيصالات أكبر من حجم المال الحقيقي من الذهب في المستودع، فإن القوة الشرائية لكل إيصال تتناقص بالقدر الذي يتزايد فيه جشع الصائغ في استصدار إيصالات جديدة واستثمارها على شكل قروض! هذا أيضاً ما يحدث عندما تتمادى البنوك في رفع نسبة حجم القروض الممنوحة، وكلما زاد معدل القروض زادت نسبة التضخم، والتضخم يشجع على الاستهلاك والتبذير والاقتراض، كما أنه يساهم في فقدان مدخرات الناس لقيمتها الحقيقية، أي أن التضخم يشجع على التبذير و يقضي على التوفير، ومن هنا فإن النظام المصرفي بشكله الحالي يساهم في انتقال غير مشروع للثروة من طبقة اجتماعية إلى أخرى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق