عندما يلتقي الفلاسفة وتتلاقح أفكارهم مع بعضها البعض فإن هذه الأفكار تحتاج عادة إلى وقت طويل كي تصل إلى الشارع وتؤثر في الوعي الجمعي· عملية الانتقال بالفكرة من المستوى النظري وترجمتها إلى ممارسة فعالة على أرض الواقع عملية معقدة جدا، وتحتاج إلى جهد بشري جبار وتضحيات لا محدودة! عملية الانتقال هذه تختلف أيضا من شعب إلى شعب، وهو اختلاف يعتمد، من ضمن عوامل أخرى، على حجم الجهد البشري المبذول ومدى التضحيات المقدمة·
شهدت شعوب أوروبا في القرن الثامن عشر "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي"، وأما شعوب المنطقة العربية في القرن الواحد والعشرين فلا تزال على أعتاب مرحلة "نقد العقل الجبان"، إن صح التعبير· لو تمت الاستفادة من الإرث الفلسفي الإسلامي بشكل صحيح لما وصلنا إلى هذه المرحلة المخزية من التفكير النقدي! لكن·· ماذا نعني تحديدا بمفهوم "العقل الجبان"؟ وما هي المظاهر التي يتجلى من خلالها هذا العقل؟ وكيف السبيل إلى نقده؟·
العقل الجبان هو العقل القادر على تخزين أصناف متناقضة من المعرفة دون امتلاك الجرأة على طرح أسئلة ضرورية حول ما هية تلك المتناقضات· إنه عقل سلبي يفتقر إلى النشاط الذهني اللازم لتحليل المعلومة ومقارنتها بأخرى، كما تعوزه فضيلة الشك (وهي فضيلة فرنسية الأصل) التي تحرك المياه الراكدة وتزعزع المفاهيم الثابتة· العقل الجبان، لأنه جبان، يميل إلى التفاعس والانزواء، وهو إلى الخمول أدنى منه إلى الفضول!
المظاهر الدالة على العقل الجبان أكثر من أن تحصى، لكني سأكتفي بذكر مثال واحد فقط، وسوف أختار لمثالي هذا شخصا ما، ولنسمه "س"، يدرس "س" في كلية العلوم، وهو متخصص في علم البيولوجيا، ومن ضمن الأشياء التي درسها بتعمق "نظرية التطور الحديثة"، وهي نظرية نتجت عن تلاقح أفكار "داروين" و"مندل"· يدرك "س" أن النظرية بلغت من الصحة حدا جعلت فيه بابا روما يعترف في عام 1998 بقوة النظرية وحجم الأدلة الدامغة التي تم العثور عليها! ومع ذلك، لم يخطر في بال "س" قط أن يتساءل عن مدى تداعيات هذه النظرية على الإرث الثقافي الذي ينتمي إليه! إن لدى "س" قدرة عجيبة على الفصل بين عالمه الأكاديمي وعوالم أخرى كثيرة ينتمي إليها مثل عالم البيت، وعالم المدرسة، وعالم المسجد، وعالم المجتمع ككل! لكن ما لا يدركه "س" هو أن عملية الفصل هذه عملية سلبية، وهي تدل على أن لـ "س" عقل جبان!!
كيف السبيل إلى نقد العقل الجبان؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال لأساتذة الجامعة وجميع المعلمين، فبأيديهم هم وحدهم أن يختاروا بين اثنتين: إما أن يربوا عند طلبتهم تلك الروح النقدية الخلاقة، وإما أن يجعلوا منهم مجرد قوالب صماء تردد ما لا تعي! إما أن يكونوا حماة لـ "العقل الفعال"، وإما أن يكونوا وصاة على "العقل الجبان"!!
الاثنين، 6 يوليو 2009
نقد العقل الجبان!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق