"الرجاء ربط الأحزمة، بعد لحظات سوف نبدأ الإقلاع" ·
بعد مرور عشر دقائق، اخترقت الطائرة الغيوم الكثيفة فبدت وكأنها تحلق فوق أحد قطبي الأرض! على أحد المقاعد الخلفية من الطائرة جلس راهب مسن إلى جانب شاب غريب الأطوار في يده اليمنى كتاب، و في اليسرى سيجارة! انزعج الراهب من رائحة التبغ وقال بتأدب:
بعد مرور عشر دقائق، اخترقت الطائرة الغيوم الكثيفة فبدت وكأنها تحلق فوق أحد قطبي الأرض! على أحد المقاعد الخلفية من الطائرة جلس راهب مسن إلى جانب شاب غريب الأطوار في يده اليمنى كتاب، و في اليسرى سيجارة! انزعج الراهب من رائحة التبغ وقال بتأدب:
- أنا اعلم يا سيدي أن هذا القسم من الطائرة مخصص للمدخنين، ولكنهم لم يجدوا لي مكانا في ···
- باختصار ·· تريد مني إطفاء السيجارة·
- لو تكرمت!
- ولكن لماذا؟! وأتبع الشاب سؤاله بابتسامة خبيثة!
- لأنها تضر بصحتي!
أطلق الشاب ضحكة عصبية متشنجة، ثم أضاف :
- إذًا فليس لديك الرغبة في ملاقاة الرب؟!
وختم سؤاله بغمزة سريعة لم يلحظها الراهب الذي بدا ممتعضا· تابع الشاب:
- أجب عن سؤالي! أراغب أنت عن ملاقاة الرب؟ !
- عصير برتقال لو سمحتي!!
ثم نظرت المضيفة إلى الشاب و قالت:
وأنت يا سيدي، ماذا تريد أن تشرب؟
فأجاب بنبرة حزينة ومؤثرة: كل ما أريده يا عزيزتي هو أول وآخر قبلة لنا!
احمرّ وجه المضيفة خجلا، فبدت أكثر جمالا، ثم رفعت كتفيها معلنة عن استغرابها، ودخلت مطبخ الطائرة·
نظر الراهب إلى الشاب و قال متوسلا:
- اسمع يا بنيّ، يبدو أنك تكابد كثيرا، افتح قلبك لي ولا تخف! فمن يدري؟ لعلي أستطيع أن أجد حلولا لبعض مشاكلك، أو أن أواسيك على الأقل!
- كفاك سخفا! لسنا في كنيسة كي أجثوَ أمامك على ركبتي وأعترف لك بذنوبي طمعا في مغفرتك!! أراغب أنت عن ملاقاة الرب؟
فكر الراهب قليلا ثم أجاب:
- اسمع يا ولدي، إن ملاقاة الرب لا تستدعي تمني الموت!
- لا شيء على الإطلاق يستدعي ذلك؟ !
- لا شيء!
شعر الراهب أنه تسرع في الإجابة، إلا أن الشاب لم يتح له فرصة التفكير، فقاطعه قائلا :
- مخطيء أنت أيها الشيخ، أجل مخطيء، وسوف أثبت لك صحة ما أقول، ولكن ليس قبل أن ألبي نداء الطبيعة· ما أروع هذا المصطلح، "نداء الطبيعة"، تعبير جميل ذو دلالة قذرة!!
ثم قام من مكانه بعد أن أطلق ضحكة متكلفة، أشبه بضحك أولئك الذين يعتصر الحزن قلوبهم، فمهما تتسع أفواههم، ومهما تعلُ أصوات ضحكاتهم، تبقَ الأعين دوما حزينة·
مرت خمس دقائق ليعود الشاب من جديد إلى مكانه، ثم يقلّب في صفحات كتابه ليعثر أخيرا على الصفحة المطلوبه، وبحركة عصبية يمد الكتاب إلى الراهب الذي أخرج نظارته وشرع يقرأ خافضا صوته:
"في عام 1984، وفي إحدى ضواحي مدينة (ن)، عثرت ابنة أحد أعضاء الحزب الوطني البارزين على دفتر المذكرات الخاص بأبيها، وكان مما جاء في إحدى صفحات هذه المذكرات ما يلي: في الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم، علمت من مصدر موثوق أنهم سوف يقومون بزرع قنبلة في الصالة المخصصة لانعقاد المؤتمر الرابع للحزب، علمت كذلك أن القنبلة سوف تنفجر بعد ساعة من انعقاد المؤتمر، ويبدو أني أمام خيارين، إما أن أطلع أعضاء الحزب على الأمر، أو أن أذهب إلى المؤتمر وكأن شيئا لم يكن! اعترف بأني أجد في الخيار الأخير إغراء لا سبيل إلى مقاومته!! يا له من مشهد رائع ذلك الذي أرى فيه أناسا يخططون للمستقبل من دون أن يعرفوا أن الموت الذي يفرون منه ملاقيهم بعد دقائق قليلة فقط! إن فكرة مشاركة الرب معرفته للغيب تأسرني! إنها تدفعني إلى التمرد على كل ما هو إنساني في سبيل التقرب إلى صفة الألوهية! جميل أن أكون نصف إله في تلك الساعة!!"
توقف الراهب عن القراءة، ثم خلع نظارته وسأل:
- وهل ذهب فعلا؟!
- أجل لقد ذهب، ولكن لم تكن لديه شجاعة "بريمثيوس" فخرج قبل خمس دقائق فقط من انفجار القنبلة!! ولو كنتُ مكانه لما تنازلت حتى عن تلك الدقائق القليلة!
فرد الراهب ساخرا:
- من السهل جدا أن تقول ذلك الآن!
- أرى أنك لا تصدق ما أقول أيها الراهب!
- ولكنك لم تكن في صالة المؤتمر حينما انفجرت القنبلة!
- هذا صحيح، و لكني في الطائرة الآن!!
(إسبانيا، خريف 1997)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق