أشرنا في المقال السابق إلى سياسة التضخم الناتجة عن نظامنا المصرفي، وينبغي الاعتراف أيضا أن نظامنا المصرفي جزء من النظام المصرفي العالمي، لذا فإن التضخم مشكلة عالمية ولا تقتصر على دولة صغيرة بحجم الكويت، لكن النقطة التي ينبغي التأكيد عليها هنا هي أن التضخم ظاهرة مصرفية في المقام الأول، أي أنها نتيجة حتمية لنظام مصرفي يخلق المال من لا شيء كما أوضحنا في المقالات السابقة. بإمكاننا أيضا أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنؤكد أن النظام المصرفي العالمي بشكله الحالي هو المسؤول الأول عن الأزمات المالية العالمية منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى زمننا الحاضر! هذا هو رأي الاقتصاديين من أتباع المدرسة النمساوية، وهو رأي يتعارض مع بقية المدارس الاقتصادية الأخرى، مثل المدرسة الماركسية أو المدرسة الكينزية.
لنأخذ على سبيل المثال الدورة الاقتصادية التي تتراوح بين التوسع والركود، أو بين الانتعاش والانكماش، والتي يعانيها الاقتصاد العالمي بين الحين والآخر، فعلى الرغم من الاختلاف الجذري بين المدرستين الماركسية والكينزية، فإنهما متفقتان على تشخيص المشكلة، فكلتاهما يرى أن السبب الأساسي لهذه الدورة الاقتصادية يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، لكنهما يختلفان من حيث طبيعة الحل الذي تقدمه كل مدرسة على حدة، فبينما يرى ماركس أن الحل يكمن في التخلص من الرأسمالية واستبدالها بنظام اقتصادي اشتراكي، يرى 'كينز' أن الحل يتمثل في تدخل الحكومات لتنظيم اقتصاد السوق كلما دعت الحاجة إلى ذلك. انهيار الاتحاد السوفييتي والتحولات الكبرى التي شهدتها بعض الدول الاشتراكية مثل الصين وضعت النظرية الماركسية على المحك، بينما شكّل الفشل الذي مني به نظام 'بريتون وودز' في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، تحدياً كبيراً للنظرية الكينزية، وعلى الرغم من تراجع هذه النظرية لمصلحة الليبرالية الجديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، فإنها بدأت من جديد تحتل شعبية كبيرة مع بداية الأزمة المالية الراهنة. لكن أين تقف المدرسة النمساوية بالنسبة لكل هذه المدارس الاقتصادية؟
المنظّرون المنتمون إلى المدرسة النمساوية من أمثال 'ميسز' و 'روثبارد' لهم رأي مغاير، فهم يرون أن السبب الرئيسي للدورة الاقتصادية يكمن في تحكم السلطة السياسية والقطاع المصرفي بكمية النقود المتاحة في الاقتصاد بشكل عام، و اتخذ هذا التحكم أشكالاً متعددة على مر التاريخ، منها ما هو بدائي مثل سيطرة الملوك بشكل مباشر على مناجم الذهب واحتكار سك العملة، ومنها ما هو أكثر تطوراً مثل إنشاء بنوك مركزية تتمتع بصلاحية طباعة النقود وتحديد سعر الفائدة وشراء السندات الحكومية أو بيعها، وكلها أدوات تتيح للبنوك المركزية التحكم بكمية المعروض من النقود، فعندما تقوم البنوك المركزية بخفض سعر الفائدة أو شراء السندات الحكومية، فإنها في حقيقة الأمر تضخ أموالاً إضافية في المؤسسات المالية التي تتوسع بدورها عن طريق الإفراط في منح القروض، وتوافر السيولة بهذا الشكل يبعث برسالة خاطئة إلى المستثمرين مفادها أن الاقتصاد يشهد انتعاشاً، لكن بمجرد أن تتخذ البنوك المركزية سياسة مضادة من خلال رفع سعر الفائدة أو بيع السندات الحكومية، فإن المستثمرين يقعون فريسة للإفلاس وعدم التمكن من سداد قيمة القروض! لقد اكتسب السيد 'بيرنانكي'، رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لقب 'بيرنانكي الهليوكبتر' بفعل قدرته على ضخ الدولارات في النظام المصرفي كما لو أنه يقذف بالمال من فوق متن طائرة مروحية، ولكن 'بيرنانكي' يستحق أيضا لقباً آخر، مثل 'المكنسة الكهربائية'، فهو قادر أيضا على امتصاص الدولارات من النظام المالي متى دعت الحاجة إلى ذلك!
كانت أبرز العوائل الغنية في مدينة 'نيوريورك' وراء فكرة إنشاء بنك مركزي، فبفضل المصالح المشتركة بين المصرفي الشهير 'مورغان' وتاجر النفط 'روكفيللر'، تم استصدار قانون إنشاء 'البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي' في عام 1913 بذريعة المحافظة على الاقتصاد وتنظيم الجهاز المصرفي، وسرعان ما اكتسبت هذه الحجة الواهية شهرة عالمية، فوجود بنك مركزي في أي دولة أصبح ينظر إليه على أنه دلالة على تطور النظام الاقتصادي واستقراره! لكن من السهل الوقوف على الأهداف الحقيقية وراء إنشاء بنك مركزي، فوجود مثل هذا البنك من شأنه إزالة كل المعوقات التي تقف في طريق البنوك لزيادة ثرواتها عن طريق خلق المال من لا شيء وزيادة التضخم، كما أن وجود البنك الاحتياطي الفيدرالي يعني قدرة الحكومة الأميركية على تمويل حروبها وبسط هيمنتها العسكرية والاقتصادية على العالم أجمع، إذ لا ننسى أن الدولار هو العملة العالمية الأساسية المسيطرة على أغلب التداولات التجارية العالمية، كما أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتمتع بحق طباعة الدولارات من دون حدود كما عبر عن ذلك السيد 'بيرنانكي' في أكثر من مناسبة، لذا من السهل أن نفهم تخوف الحكومة الأميركية من تصريحات الحكومة الصينية في الفترة الأخيرة حول ضرورة إعادة النظر في اعتبار الدولار عملة عالمية!
ملاحظة: مقال يوم الاثنين القادم سيكون آخر مقال في هذه السلسلة من المقالات حول قصة المال والنظام المصرفي.
لنأخذ على سبيل المثال الدورة الاقتصادية التي تتراوح بين التوسع والركود، أو بين الانتعاش والانكماش، والتي يعانيها الاقتصاد العالمي بين الحين والآخر، فعلى الرغم من الاختلاف الجذري بين المدرستين الماركسية والكينزية، فإنهما متفقتان على تشخيص المشكلة، فكلتاهما يرى أن السبب الأساسي لهذه الدورة الاقتصادية يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، لكنهما يختلفان من حيث طبيعة الحل الذي تقدمه كل مدرسة على حدة، فبينما يرى ماركس أن الحل يكمن في التخلص من الرأسمالية واستبدالها بنظام اقتصادي اشتراكي، يرى 'كينز' أن الحل يتمثل في تدخل الحكومات لتنظيم اقتصاد السوق كلما دعت الحاجة إلى ذلك. انهيار الاتحاد السوفييتي والتحولات الكبرى التي شهدتها بعض الدول الاشتراكية مثل الصين وضعت النظرية الماركسية على المحك، بينما شكّل الفشل الذي مني به نظام 'بريتون وودز' في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، تحدياً كبيراً للنظرية الكينزية، وعلى الرغم من تراجع هذه النظرية لمصلحة الليبرالية الجديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، فإنها بدأت من جديد تحتل شعبية كبيرة مع بداية الأزمة المالية الراهنة. لكن أين تقف المدرسة النمساوية بالنسبة لكل هذه المدارس الاقتصادية؟
المنظّرون المنتمون إلى المدرسة النمساوية من أمثال 'ميسز' و 'روثبارد' لهم رأي مغاير، فهم يرون أن السبب الرئيسي للدورة الاقتصادية يكمن في تحكم السلطة السياسية والقطاع المصرفي بكمية النقود المتاحة في الاقتصاد بشكل عام، و اتخذ هذا التحكم أشكالاً متعددة على مر التاريخ، منها ما هو بدائي مثل سيطرة الملوك بشكل مباشر على مناجم الذهب واحتكار سك العملة، ومنها ما هو أكثر تطوراً مثل إنشاء بنوك مركزية تتمتع بصلاحية طباعة النقود وتحديد سعر الفائدة وشراء السندات الحكومية أو بيعها، وكلها أدوات تتيح للبنوك المركزية التحكم بكمية المعروض من النقود، فعندما تقوم البنوك المركزية بخفض سعر الفائدة أو شراء السندات الحكومية، فإنها في حقيقة الأمر تضخ أموالاً إضافية في المؤسسات المالية التي تتوسع بدورها عن طريق الإفراط في منح القروض، وتوافر السيولة بهذا الشكل يبعث برسالة خاطئة إلى المستثمرين مفادها أن الاقتصاد يشهد انتعاشاً، لكن بمجرد أن تتخذ البنوك المركزية سياسة مضادة من خلال رفع سعر الفائدة أو بيع السندات الحكومية، فإن المستثمرين يقعون فريسة للإفلاس وعدم التمكن من سداد قيمة القروض! لقد اكتسب السيد 'بيرنانكي'، رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لقب 'بيرنانكي الهليوكبتر' بفعل قدرته على ضخ الدولارات في النظام المصرفي كما لو أنه يقذف بالمال من فوق متن طائرة مروحية، ولكن 'بيرنانكي' يستحق أيضا لقباً آخر، مثل 'المكنسة الكهربائية'، فهو قادر أيضا على امتصاص الدولارات من النظام المالي متى دعت الحاجة إلى ذلك!
كانت أبرز العوائل الغنية في مدينة 'نيوريورك' وراء فكرة إنشاء بنك مركزي، فبفضل المصالح المشتركة بين المصرفي الشهير 'مورغان' وتاجر النفط 'روكفيللر'، تم استصدار قانون إنشاء 'البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي' في عام 1913 بذريعة المحافظة على الاقتصاد وتنظيم الجهاز المصرفي، وسرعان ما اكتسبت هذه الحجة الواهية شهرة عالمية، فوجود بنك مركزي في أي دولة أصبح ينظر إليه على أنه دلالة على تطور النظام الاقتصادي واستقراره! لكن من السهل الوقوف على الأهداف الحقيقية وراء إنشاء بنك مركزي، فوجود مثل هذا البنك من شأنه إزالة كل المعوقات التي تقف في طريق البنوك لزيادة ثرواتها عن طريق خلق المال من لا شيء وزيادة التضخم، كما أن وجود البنك الاحتياطي الفيدرالي يعني قدرة الحكومة الأميركية على تمويل حروبها وبسط هيمنتها العسكرية والاقتصادية على العالم أجمع، إذ لا ننسى أن الدولار هو العملة العالمية الأساسية المسيطرة على أغلب التداولات التجارية العالمية، كما أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتمتع بحق طباعة الدولارات من دون حدود كما عبر عن ذلك السيد 'بيرنانكي' في أكثر من مناسبة، لذا من السهل أن نفهم تخوف الحكومة الأميركية من تصريحات الحكومة الصينية في الفترة الأخيرة حول ضرورة إعادة النظر في اعتبار الدولار عملة عالمية!
ملاحظة: مقال يوم الاثنين القادم سيكون آخر مقال في هذه السلسلة من المقالات حول قصة المال والنظام المصرفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق