في كل مرة أنتهي فيها من كتابة مقال، وقبل إرساله إلى «الجريدة» للنشر، أطرح على نفسي السؤال التالي: كيف سيكون شكل المقال، يا ترى، لو كانت لدي حرية مطلقة في التعبير عن رأيي؟ هذا سؤال تجريبي، أي من الممكن العثور على إجابة عنه من خلال إجراء تجربة معينة. مثلا، بإمكاني أن أكتب نسختين لكل مقال، نسخة أعبر فيها عن رأيي بكل حرية، وهي لهذا السبب غير صالحة للنشر، ونسخة أشوّه فيها رأيي بطريقة تضمن عدم إثارة غضب القراء، وهي لهذا السبب صالحة للنشر! ماذا لو أصررت على التعبير عن رأيي ليسمعه الآخرون؟ في هذه الحالة، من الممكن أن أكتب ما أشاء في أي موقع الكتروني على شبكة «الإنترنت»، مع عدم الافصاح عن هويتي الحقيقية! ماذا أستنتج من كل ذلك؟ الاستنتاج الطبيعي هو أنني أعيش في مجتمع لا يسمح لي في التعبير عن رأي مخالف للرأي السائد، وإذا كان لابد من التعبير عن رأيي، فإن أمامي خيارين، إما أن أحتفظ بهذا الرأي لنفسي، وإما أن أتنازل عن هويتي! عندما أشرع في قراءة تاريخ الشعوب المتقدمة، يخيل إليّ أنني أقرأ تاريخنا المعاصر، فما كان محظورا في ماضي تلك الشعوب، مازال محظورا في حاضرنا نحن! قبل سنوات، عثرت على مخطوطة غير منشورة حتى هذه اللحظة، وموجودة حاليا في المكتبة الوطنية في مدريد، يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وهي عبارة عن نص أدبي لكاتب إسباني مجهول الهوية، يتحدث من خلاله عن رداءة ما يكتب في عصره، ثم يقرر على لسان إحدى شخصياته ما يلي: «تناول الريشة، واكتب ما شئت، وأنا زعيم لك بأن ما كتبته سينشر ويباع أيضا، لكن حذار أن تنتقد الدين أو الملك أو العادات الحميدة»! في زمننا الحاضر، لم يعد هذا الثالوث محرما في إسبانيا، لكنه مازال يشكل أساسا لكل المواضيع المحظورة في عالمنا العربي، وهي مواضيع تجبر الكاتب على أن يختار ما بين الصمت أو التخفي، ما بين الكتابة على الماء أو الكتابة في عالم الأشباح، ما بين كسر القلم أو حجب الهوية!
يرمز ثالوث الدين والملك والعادات الحميدة إلى السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية على التوالي، لكن نظرا إلى تنامي سطوة المال في زمننا الحالي، أصبحت هناك سلطة اقتصادية تلجم القلم في سبيل المحافظة على المصالح التجارية لأرباب المال ممّن لا همّ لهم سوى الثراء الفاحش! بإمكان صحافتنا المحلية أن تتشدق بمستوى حرية التعبير، لكن إذا كان هناك مجرد احتمال في أن تؤدي هذه الحرية إلى الإضرار بالمردود المادي من الإعلانات التجارية، مثلا، فإن حرية التعبير في هذه الحالة لن تساوي فلسا واحدا!
على ماذا تدل مصادرة حرية التعبير؟ إنها تدل على أننا لا نهتم بمعرفة الحقيقة، وكل ما يهمنا هو أن يسود الرأي الذي نؤمن به! تبادل الآراء يؤدي إلى تلاقح الأفكار، وتلاقح الأفكار يعني خطوة إلى الإمام على طريق الحقيقة، ولن نصل إلى نهاية الطريق (إن كانت ثمة نهاية) إلا عندما نربي أنفسنا على سماع الرأي الآخر، مهما جاء وقع هذا الرأي ثقيلا على القلب، جديدا على الأذن!
الجمعة، 31 يوليو 2009
بين القلم والهوية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق