«إما أن ننجو جميعا، أو نغرق جميعا»، هكذا يردد الرئيس الأميركي الجديد «أوباما» في محاولة من جانبه لإقناع الرأي العام الأميركي في ضرورة مواصلة إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة (وما أكثرها!)، وفي بريطانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي يردد الزعماء الحجة نفسها! الصورة في الكويت لا تبدو مختلفة، بل إن الخطوات التي اتخذتها الدول الكبرى أصبحت تشكل إحدى الحجج الرئيسية التي يلجأ إليها مؤيدو ما يسمى بمشروع قانون «الاستقرار المالي» للتأكيد على أهمية هذا القانون، والحق أني لم أعثر حتى هذه اللحظة على خبير اقتصادي كويتي واحد يقف ضد هذا المشروع المشبوه، مما يعني أننا أمام احتمالين: إما أن المشروع مهم فعلا، وإما أن الأقدار شاءت أن ينتمي كل خبرائنا الاقتصاديين إلى اليمين!
إحدى أهم الحجج التي يلجأ إليها المؤيدون لتدخل الحكومات في إنقاذ الاقتصاد، سواء على الصعيدين المحلي أو العالمي، تشير إلى أن أي تأخير في إنقاذ الاقتصاد سيدفع ثمنه الصغير قبل الكبير، ولعل المثال الأوضح في هذه النقطة تحديدا هو ارتفاع نسبة البطالة. هذه الحجة، بطبيعة الحال، تهدف إلى إقناع المواطن البسيط في أن استخدام الدولة للأموال العامة يصب في مصلحته الخاصة، لكن ما مدى قوة هذه الحجة؟ كي تبدو الحجة منطقية، لا بد من إثبات أن انتعاش الاقتصاد كفيل بانتشال المواطن البسيط من الشقاء الذي يعيش فيه، وهو أمر ينافي الواقع، وسأحاول من خلال هذا المقال أن أدلل على الحقيقة التالية: في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي، يعيش المواطن البسيط في شقاء دائم، سواء كانت الدورة الاقتصادية تشير إلى الركود أو الانتعاش!
لنأخذ على سبيل المثال الحالة الصينية، فمن المعروف أن الصين دأبت على اتخاذ سياسة تقشفية حادة، فمعدل الانتاج أكبر بكثير من معدل الاستهلاك، وكي أوضح للقارئ مدى الأثر المأساوي لهذه السياسة على حياة الإنسان الصيني البسيط، ينبغي أن أشرح مسار رحلة البضائع الصينية إلى الأسواق العالمية، خصوصا إلى الأسواق الأميركية، فالعامل الصيني يستهلك أكثر من نصف يومه في إنتاج البضائع الصينية، ويتلقى أجرا زهيدا يبلغ 1200 رينمينبي في الشهر (أي ما يقارب 50 دينارا كويتياً)، وبمجرد وصول البضائع إلى الأسواق الأميركية، مثلا، يتم بيعها بالدولار الأميركي ثم تنتقل الدولارات إلى جيب صاحب المصنع في الصين، الذي يتوجه بدوره إلى المصارف الصينية لاستبدال الدولارات بالعملة الصينية، ولكن القانون الصيني يجبر المصارف أيضا على استبدال الدولارات بالعملة الصينية عن طريق البنك المركزي الصيني أو ما يسمى بـ «بنك الشعب الصيني»، ثم تقوم الحكومة الصينية باستبدال هذه الدولارات بسندات الخزانة الأميركية، أي أن ملايين الدولارات تنتقل بشكل يومي من أميركا إلى الصين ثم إلى أميركا من جديد لتستقر في «الصندوق السيادي الصيني» الموجود في عهدة الخزانة الأميركية! هذه الأموال الضخمة تشكّل مدخرات الشعب الصيني، لكن الخزانة الأميركية تستعير هذه الأموال لضخ السيولة في مؤسساتها المالية ورفع معدل القروض المتاحة للمواطن الأميركي، والمفارقة هنا هي أن المواطن الأميركي الميسور يستدين من المواطن الصيني المقهور، والمحصلة النهائية هي أن الحكومة الصينية تجبر مواطنيها على المزيد من التقشف، بينما تستدرج الحكومة الأميركية مواطنيها إلى المزيد من البذخ والاستهلاك!
في ظل الأزمة المالية الحالية، تم صرف جزء كبير من مدخرات الشعب الصيني في أميركا لإنقاذ المؤسسات المالية الأميركية الكبرى، أي أن مصير المواطن الصيني هو الشقاء في السراء والضراء، سواء كان الاقتصاد العالمي منتعشا أو منكمشا! ربما يتساءل القارئ عن مصلحة الصين في اتباع هذه السياسة الظالمة بحق شعبها، وهو سؤال مشروع، لكن الإجابة عنه تحتاج إلى التطرق إلى أمور أخرى مثل ارتباط العملة الصينية بالدولار، والدور التاريخي للعملة الأميركية منذ نظام «بريتون وودز» إلى يومنا هذا، وهذه أمور سنتطرق إليها في مقال لاحق، لكن ما يهمني هنا هو التأكيد على النقطة التالية، وهي أن مصير المواطن الصيني لا يختلف كثيرا عن مصير المواطن الخليجي، فالدول الخليجية تحتفظ أيضا بصناديق سيادية ضخمة في الولايات المتحدة الأميركية، فنحن نبيع النفط بالدولارات الأميركية ثم نعيد قسما كبيرا منها إلى موطنها الأصلي (أميركا) على شكل «صناديق سيادية»، وأما وظيفة هذه الصناديق فتختلف باختلاف الحالة الصحية للاقتصاد العالمي، فعندما يكون الوقت وقت رخاء وازدهار، تساهم أموالنا في «تحريك عجلة الاقتصاد الأميركي»، أي إلى المزيد من التضخم والمضاربات والتساهل في منح القروض للمواطن الأميركي، وعندما يكون الوقت وقت انكماش وتدهور، تساهم الأموال الخليجية في إنقاذ المؤسسات الأميركية المعرّضة للإفلاس مثل «سيتي غروب» و «ميريل لينش»! المحصلة النهائية هي أن المواطن الخليجي البسيط يعاني البؤس في كلتا الحالتين، فهو من جهة يدفع قيمة التضخم المستورد من الأسواق الأميركية في أيام الرخاء، ويدفع فاتورة إنقاذ البنوك المحلية والأجنبية في أيام الكساد!
أمام هذه الصورة المقززة لهذا العالم المتوحش الذي نعيش فيه، لا يملك المرء سوى أن «يغلق الكتاب باصقا»، كما يقول «دوستويفسكي» في إحدى رواياته الخالدة!
الجمعة، 31 يوليو 2009
الشقاء في السرّاء والضرّاء
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق