هناك جملة شهيرة يرردها عادة المدافعون عن «الديموقراطية الكويتية»، وهي تعود إلى الفيلسوف الأميركي «جون دووي»، ومفادها أن «مشاكل الديموقراطية يمكن حلها عن طريق المزيد من الديموقراطية»! الفيلسوف الأميركي يتحدث بطبيعة الحال عن الديموقراطية الأميركية، وهي ديموقراطية قائمة على أساس ليبرالية دستورية تحمي حقوق الفرد والأقليات من خطر الديموقراطية، وهو خطر «سطوة الأغلبية» حسب تعبير المفكر السياسي الفرنسي «توكيفيل». لكن يبدو أن المدافعين عن الديموقراطية على الطريقة الكويتية لا يجدون غضاضة في المطالبة بالمزيد من الديموقراطية من دون تأسيس مسبق لأبسط مبادئ الليبرالية الدستورية! عندما يفشل الدستور في كبح جماح الديموقراطية، فإن المطالبة بالمزيد من الديموقراطية تعني المطالبة بالمزيد من سطوة الأغلبية، وبالتالي المزيد من قمع الحريات الشخصية وحقوق الأقليات.
سأحاول أن أنشّط ذاكرة القارئ عن طريق الإشارة إلى بعض التشريعات والقوانين التي صدرت عن مجلسي الأمة والبلدي، منها على سبيل المثال التشريعات المتعلقة برفض منح المرأة حقوقها السياسية في عام 1999، ومنع التعليم المشترك وفرض الرقابة على معرض الكتاب ورفض منح ترخيص لإقامة مسجد لطائفة البهرة! هذه كلها قوانين ديموقراطية بامتياز، فهي نتاج رأي الأغلبية، ولكن ماذا عن مدى دستورية هذه القوانين؟ هذا سؤال غير بريء، فهو يشير ضمنيا إلى الحقيقة التالية: إصدار قانون بطريقة ديموقراطية لا يعني بالضرورة أن القانون دستوري. هذا يعني أن مبدأ الالتزام بالديموقراطية شيء ومبدأ الالتزام بالدستور شيء آخر، والتقيد بالمبدأ الأول على حساب المبدأ الثاني بات سمة واضحة في التشريعات البرلمانية في الكويت!
ينبغي أن ندرك أن الديموقراطية لا تختلف عن الدكتاتورية إلا من حيث كيفية اتخاذ القرار، فالقرار الديموقراطي قرار جماعي، والقرار الدكتاتوري قرار فردي، ولكن تحديد مدى عدالة القرار غير مرتبط لا بالديموقراطية ولا بالدكتاتورية. قد يظلم الدكتاتور شعبه وقد ينصفه، وبالمثل، قد تهضم الأغلبية حقوق الأقلية وقد تنصفها، والدستور هو الذي يحدد الخط الفاصل بين الظلم والعدل! إذا أردنا ديموقراطية عادلة، فعلينا أن نحمي حقوق الفرد والأقليات من سطوة الأغلبية، وهو أمر يتطلب الالتزام المبدئي والفعلي بنصوص الدستور، وهذه مشكلة شائكة يصعب حلها، لأن الجميع تقريبا يدعي الالتزام بالدستور، ولكن ليس هناك نقاش حقيقي يساهم في وضع تعريف محدد لهذا الالتزام، ويبدو لي أن التيارات السياسية في الكويت لم تصل بعد إلى مرحلة من النضج السياسي تستطيع من خلالها تفعيل مثل هذا النقاش، ويبدو لي أيضا أن كل تيار سياسي يفهم مبدأ الالتزام بالدستور على طريقته الخاصة، فالأحزاب الدينية تدعي التقيد بنصوص الدستور، لكنها لا تتورع عن تبني تشريعات تعتمد على قراءة «واسعة» للمادة الثانية وتتعارض مع بعض المواد الأخرى، والتيارات «الشعبوية» تدعي الالتزام بالدستور، لكنها لا تتردد في تبني تشريعات تحظى برأي الشارع وتخالف قوانين الدولة، والتيار «الوطني» يدعي التمسك بالدستور، لكنه يتحمس في الدفاع عن قضايا المال العام وعن المادة 107 ثم يتقاعس عن الدفاع عن أبسط الحقوق المدنية التي كفلها الدستور!
لست أقف ضد الديموقراطية، لكن أريد أن أبين أن الديموقراطية ليست خيرا مطلقا، ذلك أننا عندما نسمح لرأي الأغلبية في أن يتخطى حدود الدستور، فإن المحصلة هي ضياع حقوق الفرد المدنية من جانب، وتراجع مشاريع التنمية واقتصاد الدولة من جانب آخر، فالتشريعات البرلمانية التي تستند إلى المادة الثانية من الدستور لا تتيح الفرصة في بناء دولة مدنية حقيقية، والتشريعات النيابية التي تدعم سياسة الاستحواذ وتشجع الاعتماد السلبي للمواطن على الدولة لا تسمح برسم سياسة اقتصادية تتسم برؤية متوازنة وتصب في مصلحة المجتمع على المدى البعيد.
أعلم مسبقا أن مثل هذا الكلام لا يروق لبعضهم، وأعلم أيضا أني متهم منذ البداية بالمثالية والبعد عن رؤية الأمور بصورة أكثر واقعية، ولكني لا أطالب بأكثر من فهم صحيح لشعارات نهتف بها من دون أن ندرك معناها! ثم إني لم أبلغ من السذاجة حدا يدفعني إلى الاعتقاد بأن الأحزاب الدينية ستتخلى بين عشية وضحاها عن أسلمة القوانين والتعدي على دستور الدولة، لكني أطالب بمجرد التفكير في كيفية إقامة حوار مفتوح بين الأكاديميين وأهل الاختصاص في محاولة إلى إيجاد صيغة لبناء دولة مدنية تتسع للجميع، وأما التيارات السياسية فسبق أن قلت إنها لم تنضج بعد، فقدرة هذه التيارات على عقد الندوات الانتخابية أكبر بكثير من قدرتها على خوض الحوارات الفكرية!
ستجرى الانتخابات عن قريب وسيأتي مجلس جديد، لكن يجب ألا نخدع أنفسنا، فالمشكلة تبقى قائمة، وستبقى كذلك ما لم تتم مناقشتها بشكل صريح وبعيدا عن الحسابات الانتخابية الضيقة وقصيرة المدى، فمستقبل الدولة بأكملها وهويتها على المحك، فإما أن يتفق الجميع على تعريف واضح ومحدد لمفهوم «الالتزام بالدستور»، وإلا فإن الديموقراطية على الطريقة الكويتية ستقودنا من نفق مظلم إلى نفق آخر أشد ظلمة!
سأحاول أن أنشّط ذاكرة القارئ عن طريق الإشارة إلى بعض التشريعات والقوانين التي صدرت عن مجلسي الأمة والبلدي، منها على سبيل المثال التشريعات المتعلقة برفض منح المرأة حقوقها السياسية في عام 1999، ومنع التعليم المشترك وفرض الرقابة على معرض الكتاب ورفض منح ترخيص لإقامة مسجد لطائفة البهرة! هذه كلها قوانين ديموقراطية بامتياز، فهي نتاج رأي الأغلبية، ولكن ماذا عن مدى دستورية هذه القوانين؟ هذا سؤال غير بريء، فهو يشير ضمنيا إلى الحقيقة التالية: إصدار قانون بطريقة ديموقراطية لا يعني بالضرورة أن القانون دستوري. هذا يعني أن مبدأ الالتزام بالديموقراطية شيء ومبدأ الالتزام بالدستور شيء آخر، والتقيد بالمبدأ الأول على حساب المبدأ الثاني بات سمة واضحة في التشريعات البرلمانية في الكويت!
ينبغي أن ندرك أن الديموقراطية لا تختلف عن الدكتاتورية إلا من حيث كيفية اتخاذ القرار، فالقرار الديموقراطي قرار جماعي، والقرار الدكتاتوري قرار فردي، ولكن تحديد مدى عدالة القرار غير مرتبط لا بالديموقراطية ولا بالدكتاتورية. قد يظلم الدكتاتور شعبه وقد ينصفه، وبالمثل، قد تهضم الأغلبية حقوق الأقلية وقد تنصفها، والدستور هو الذي يحدد الخط الفاصل بين الظلم والعدل! إذا أردنا ديموقراطية عادلة، فعلينا أن نحمي حقوق الفرد والأقليات من سطوة الأغلبية، وهو أمر يتطلب الالتزام المبدئي والفعلي بنصوص الدستور، وهذه مشكلة شائكة يصعب حلها، لأن الجميع تقريبا يدعي الالتزام بالدستور، ولكن ليس هناك نقاش حقيقي يساهم في وضع تعريف محدد لهذا الالتزام، ويبدو لي أن التيارات السياسية في الكويت لم تصل بعد إلى مرحلة من النضج السياسي تستطيع من خلالها تفعيل مثل هذا النقاش، ويبدو لي أيضا أن كل تيار سياسي يفهم مبدأ الالتزام بالدستور على طريقته الخاصة، فالأحزاب الدينية تدعي التقيد بنصوص الدستور، لكنها لا تتورع عن تبني تشريعات تعتمد على قراءة «واسعة» للمادة الثانية وتتعارض مع بعض المواد الأخرى، والتيارات «الشعبوية» تدعي الالتزام بالدستور، لكنها لا تتردد في تبني تشريعات تحظى برأي الشارع وتخالف قوانين الدولة، والتيار «الوطني» يدعي التمسك بالدستور، لكنه يتحمس في الدفاع عن قضايا المال العام وعن المادة 107 ثم يتقاعس عن الدفاع عن أبسط الحقوق المدنية التي كفلها الدستور!
لست أقف ضد الديموقراطية، لكن أريد أن أبين أن الديموقراطية ليست خيرا مطلقا، ذلك أننا عندما نسمح لرأي الأغلبية في أن يتخطى حدود الدستور، فإن المحصلة هي ضياع حقوق الفرد المدنية من جانب، وتراجع مشاريع التنمية واقتصاد الدولة من جانب آخر، فالتشريعات البرلمانية التي تستند إلى المادة الثانية من الدستور لا تتيح الفرصة في بناء دولة مدنية حقيقية، والتشريعات النيابية التي تدعم سياسة الاستحواذ وتشجع الاعتماد السلبي للمواطن على الدولة لا تسمح برسم سياسة اقتصادية تتسم برؤية متوازنة وتصب في مصلحة المجتمع على المدى البعيد.
أعلم مسبقا أن مثل هذا الكلام لا يروق لبعضهم، وأعلم أيضا أني متهم منذ البداية بالمثالية والبعد عن رؤية الأمور بصورة أكثر واقعية، ولكني لا أطالب بأكثر من فهم صحيح لشعارات نهتف بها من دون أن ندرك معناها! ثم إني لم أبلغ من السذاجة حدا يدفعني إلى الاعتقاد بأن الأحزاب الدينية ستتخلى بين عشية وضحاها عن أسلمة القوانين والتعدي على دستور الدولة، لكني أطالب بمجرد التفكير في كيفية إقامة حوار مفتوح بين الأكاديميين وأهل الاختصاص في محاولة إلى إيجاد صيغة لبناء دولة مدنية تتسع للجميع، وأما التيارات السياسية فسبق أن قلت إنها لم تنضج بعد، فقدرة هذه التيارات على عقد الندوات الانتخابية أكبر بكثير من قدرتها على خوض الحوارات الفكرية!
ستجرى الانتخابات عن قريب وسيأتي مجلس جديد، لكن يجب ألا نخدع أنفسنا، فالمشكلة تبقى قائمة، وستبقى كذلك ما لم تتم مناقشتها بشكل صريح وبعيدا عن الحسابات الانتخابية الضيقة وقصيرة المدى، فمستقبل الدولة بأكملها وهويتها على المحك، فإما أن يتفق الجميع على تعريف واضح ومحدد لمفهوم «الالتزام بالدستور»، وإلا فإن الديموقراطية على الطريقة الكويتية ستقودنا من نفق مظلم إلى نفق آخر أشد ظلمة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق