لو كنت مديراً لشركة، ثم أرسلت تعميماً صارماً إلى جميع الموظفين بعدم قبول أي أوامر لا تستند إلى سبب منطقي أو دليل مادي، حتى لو كانت هذه الأوامر صادرة من جهتي، فما هي تداعيات مثل هذا القرار الغريب؟ من الواضح أن دعوة الموظفين إلى التفكير النقدي تحدّ من سلطتي كمدير للشركة، فهي دعوة لا تتيح لي إصدار أي قرار لا يخضع إلى ميزان العقل! على ضوء هذا المثال الافتراضي، أريد من خلال هذا المقال أن أستعرض الأسباب التي تقف وراء عدم تبني مشروع التفكير النقدي من قبل أي شكل من أشكال السلطة في عالمنا العربي.
ليس من مصلحة أي حكومة عربية أن تتبنى مشروع التفكير النقدي ضمن برامجها التعليمية، فهذا المشروع «الخطير» من شأنه إنتاج مواطنين لهم من القدرة الذهنية ما يكفي لطرح أسئلة تتعلق بشرعية السلطة السياسية. ربما أنقذت قطعة من الخبز حكم دكتاتور من ثورة شعب جائع، لكن عندما تثور العقول فلن ينفع توزيع الخبز! القرار السياسي الذي يدعو إلى تبني مشروع التفكير النقدي يتضمن اعترافاً ضمنياً مفاده أن لا سلطة تعلو على سلطة العقل، ومن الصعب تخيل وجود حكومة عربية على استعداد إلى تقديم اعتراف بهذا الحجم! كيف تستطيع حكومة غير منتخبة أن تبرّر بقاءها الدائم في السلطة لشعب يفكر أغلب أفراده بطريقة نقدية؟!
ليس من مصلحة أي مؤسسة دينية أن تتبنى مشروع التفكير النقدي ضمن برامجها الدعوية، فهذا المشروع «الخطير» من شأنه إنتاج أفراد لهم من القدرة الذهنية ما يكفي لطرح أسئلة تتعلق بمفهوم الدين ومدى تأثره بالثقافة المحلية. ربما أبكت الخطب البلاغية الرجال قبل النساء، لكن عندما تثور العقول فلن يكون مفعول تلك الخطب أفضل من مفعول الآذان في مالطا! إن انتشار التفكير النقدي يعني ببساطة انقراض البرامج والمحاضرات الدينية، وكساد التجارة بالدين، وإفلاس البنوك الإسلامية! عندما يصبح التفكير النقدي عادة روتينية، فإن «زغلول النجار» و»عمرو خالد» وغيرهما الكثير سينسحبون مرغمين من دائرة الضوء ومن دون ضجيج، وستبقى كتاباتهم وأقوالهم شاهداً على حقبة من الانحطاط الفكري لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها. إذا كان جيل اليوم من أبناء الغرب يقف مندهشاً من حجم انتشار الخرافة في القرون الوسطى، فإن أجيالنا ستقف في الغد البعيد مبهورة من حجم التخلف الفكري الذي نعيشه هذه الساعة. من المؤسف حقاً أن لا يستطيع الإنسان أن يقرر متى يولد!
ليس من مصلحة أي طبقة تجارية أن تتبنى مشروع التفكير النقدي ضمن مشاريعها الاستثمارية، فهذا المشروع «الخطير» من شأنه إنتاج أفراد لهم من القدرة الذهنية ما يكفي لطرح أسئلة تتعلق باحتكار السوق ومدى عدالة توزيع الثروة. من جانب آخر، مفهوم التسويق التجاري يقف على النقيض من وظيفة التفكير النقدي، ذلك أن من أهم عوامل التسويق الناجح هو شل قدرة المستهلك على التفكير بطريقة نقدية. هناك بعض الشركات الكبرى تستعين بخبراء في ميدان علم النفس للعثور على أنجح السبل في ترويج بضاعتها، كما أن فكرة الدعاية التجارية قائمة على خلق الحاجة الواهية عند المستهلك وتحطيم قدرته العقلية على طرح الأسئلة النقدية حول جودة المنتوج المعروض للبيع. عندما تقف عارضة الأزياء الألمانية «كلاوديا شيفر»، مثلاً، أمام سيارة «سيتروين» في إعلان تجاري، فإن آخر ما يتمناه مدير شركة «ستروين» هو أن يطرح المستهلك على نفسه سؤالاً حول مدى خبرة هذه الفتاة الجميلة في مجال صناعة السيارات! الطريف في الأمر هو أن العارضة الألمانية، عندما ظهرت في ذلك الإعلان، لم تكن تحمل رخصة قيادة ولم تكن تعرف قيادة السيارة!
مشروع التفكير النقدي في عالمنا العربي أشبه بطفل يبحث عمّن يتبناه، طفل ليس له عينان، لكنه قادر على أن يجعلنا نرى بوضوح حجم التخلف الفكري الذي يحاصرنا من كل جانب، طفل ليس له أذنان، لكنه قادر على أن يجعلنا نبتسم بخبث ذكيّ عند سماع خطبة السيد الرئيس، أو خطبة فضيلة الشيخ الجليل، أو حتى تأوّهات «كلاوديا شيفر» على «دعامية» سيارة سيتروين!
الأربعاء، 29 يوليو 2009
طفل يبحث عمّن يتبنّاه
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق