الاختيار عملية روتينية في حياتنا اليومية، فنحن نختار لون الملبس، وموديل السيارة، وربما حتى نوعية الأصدقاء، لكن لو توقفنا قليلا عند عملية الاختيار ذاتها، ولو حاولنا فحصها بشكل دقيق، فإن من المحتمل أن نكتشف أن هذه العملية الروتينية تنطوي على دلالات لم تكن واضحة من الوهلة الأولى.
كل عملية اختيار تتضمن عملية تنازل، فلو طلبت، مثلا، من القارئ أن يختار بين «أ» و«ب»، ووقع اختياره على «أ»، فهذا يعني أيضا أنه تنازل عن «ب». هذه الحقيقة تشير إلى أنه ليس هناك فرق منطقي بين الاختيار والتنازل، فكلاهما يشترط وجود بدائل، لكن في المقابل هناك فرق سايكولوجي بينهما، فلو سألت القارئ ماالذي جعله يختار «أ»، فإن هناك احتمالين لإجابته، إما لأن «أ» أفضل من «ب»، وإما لأن «ب» أسوأ من «أ». إذا أراد القارئ مثالا آخر أقل تجريدا، فبوسعه أن يتذكر المعيار الذي اختار من خلاله المرشحين في الانتخابات الماضية، وسيجد أن اختيار «المرشح الأفضل» يختلف تماما عن اختيار «المرشح الأقل سوءاً»، فالحالة الأولى تدل على وجود نخبة ممتازة من المرشحين يصعب «التنازل» عن أحدهم، والحالة الثانية تدل على وجود مجموعة متواضعة من المرشحين يصعب «الاختيار» من بينهم.
لنفرض من جديد أني طلبت من القارئ أن يختار بين «أ» و«ب»، ووقع اختياره على «أ»، ثم أطرح أنا بدوري على القارئ السؤال التالي: هل سيكون هناك معنى لاختيار «أ» لولا وجود «ب»؟ هذا سؤال بلاغي، والأسئلة البلاغية كما نعلم لا تنتظر إجابة، ذلك أن الإجابة موجودة في الفقرة السابقة، حيث اتقفنا على أن كل عملية اختيار تشترط وجود بدائل، ومن دون هذه البدائل تصبح عملية الاختيار مستحيلة. إذا كانت هناك تفاحة واحدة فقط في السلة، فمن الحماقة أن أطلب منك أن تختار!
أثناء فترة حكم طاغية بغداد، عندما كنا نشاهد الملايين من شعب العراق تهتف بحياة الدكتاتور، كنا على يقين بأن تلك الملايين من البشر لم تختر الخروج إلى الشوارع بمحض إرادتها، والسبب في ذلك أن عملية الاختيار لم تكن واردة، لأن البدائل لم تكن متوافرة! بالمقابل، شاهدنا بالأمس القريب كيف احتشد الآلاف من الشعب الأميركي لسماع خطاب «أوباما»، ولم يخطر في بالنا قط أن تلك الجموع جاءت مرغمة، والسبب بطبيعة الحال هو أن عملية الاختيار كانت واردة، لأن البدائل كانت متوافرة.
لا معنى لاختيار «أ» من دون وجود «ب»، وهذا القانون له تطبيقات كثيرة، فعلى سبيل المثال: ما معنى أن يشيد شعب من الشعوب بنزاهة القضاء إذا كان التشكيك بنزاهة القضاء يؤدي إلى الإحالة إلى القضاء؟ ما قيمة أن يفرح صديق بسماع مديحي لمقالاته الصحفية إذا كان يغضب من سماع ذمي لها؟ ما معنى أن نتحدث، مثلا، عن الفوائد الصحية للطقوس الدينية إذا كان الحديث عن الأضرار الصحية لهذه الطقوس ممنوع شرعا وقانونا؟ ما قيمة الحديث عن روعة الإيمان إذا كان الإيمان نفسه هو الخيار الوحيد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق