في عام 1944، نشر المفكر الاقتصادي الهنغاري «كارل بولانيي» كتابه الذي حمل عنوان «التحول الكبير»، وحاول من خلاله أن يشرح الأسباب الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى انهيار النظام الاقتصادي-الاجتماعي الأوروبي في القرن التاسع عشر، وأن يدافع عن التحول الكبير الذي لحق بهذا النظام في القرن العشرين. يكتسب كتاب «بولانيي» أهمية خاصة في وقتنا الحاضر، فمن خلاله نستطيع التعرف على الجذور التاريخية للأزمات الاقتصادية التي يعانيها العالم منذ أواخر التسعينيات على أقل تقدير. يقول «بولانيي» في كتابه: «إن السماح للسوق بأن يكون المتحكم الأوحد بمصير الناس وحياتهم سيؤدي إلى انهيار المجتمع الإنساني»، ثم يضيف متفائلا: «إن الأمم تشهد الآن (1944) تطورا إيجابيا في اتجاه تقليص دور الاقتصاد في تحديد شكل المجتمع، فأولوية المجتمع على الاقتصاد يجب أن تكون مصونة»!
«بولانيي» معذور في تفاؤله، فقد كان يشهد بداية تحول إيجابي في الاقتصاد العالمي، فمفهوم «دولة الرفاه» برز على السطح خلال فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وعلى الرغم من التعثر الذي صاحب نشوب الحرب العالمية الثانية، فإن مؤتمر «بريتون وودز» الشهير أشاع التفاؤل من جديد بإمكان تحقيق نظام مالي عالمي يساهم في استقرار المجتمع البشري وتقدمه، وذلك من خلال ضمان أكبر قدر من التعاون بين الدول في مجال السياسة النقدية، ومنح كل دولة الحق في تنظيم حركة تنقل رؤوس الأموال.
لكن عين الشيطان لم تنم، خصوصا في جامعة شيكاغو، فهناك ولدت أبشع سياسة اقتصادية عرفها العالم منذ القرن التاسع العشر، وبفضل البروفيسور الشهير «فريدريك فون هايك» وتلميذه «ميلتون فريدمان»، بدأت ملامح «الليبرالية الجديدة» تتشكل عن طريق البحوث العلمية والحلقات الأكاديمية المغلقة، إلى أن تُرجمت أخيرا على أرض الواقع بفضل سياسة «تاتشر» في بريطانيا، وسياسة «ريغان» في الولايات المتحدة الأميركية. كان الفيلسوف الصيني العظيم «لاو تسو» ينصح الجميع قائلا «إياكم والتنافس»، لكن البروفيسور «هايك» وأتباعه جعلوا من مبدأ التنافس قاعدة أساسية للنظام الاقتصادي الجديد، وبفضل هذه النزعة الداروينية الاجتماعية، أصبح البقاء للأقوى، وأما الضعيف فلا مكان له في مجتمع رأسمالي متوحش!
في تعليقه على الأزمة الاقتصادية الراهنة، يقول البروفيسور نعوم تشومسكي: «الليبرالية الجديدة تعمّم الخسارة والتكلفة، ولكنها تخصخص الربح»! أليس ما يقوله «تشومسكي» صحيحا؟ ألم تطالب الليبرالية الجديدة برفع يد الدولة عن شؤون الاقتصاد في أيام الرخاء، ثم نراها ترتمي بأحضان الدولة في أوقات النكبات؟ لماذا يتعين على المواطن الأميركي البسيط أن يدفع تكلفة هذه الأزمة بواسطة أموال الضرائب، بينما لم يجن هو من الربح ما جنته الشركات الكبرى قبل نشوء الأزمة؟ ثم أليس من العار على الديمقراطية الأميركية أن يكون ملف الأزمة المالية في يد وزير الخزانة على الرغم من تورطه في خسائر مالية كبيرة؟!
أخيرا، لدينا هنا في الكويت حكومة متحمسة جدا في تبني أفكار الليبرالية الجديدة، خصوصا في مجال مشاريع الخصخصة، فهل ستؤدي الأزمة الراهنة على الأقل إلى إعادة النظر في السياسة الاقتصادية للدولة، أم أن شبق التجار أقوى بكثير من إرادة الحكومة؟!
الجمعة، 31 يوليو 2009
الجذور التاريخية للأزمة الاقتصادية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق