حدثني صديق عن أول تجربة له في ركوب الطائرة، حيث قال: كنت متجهاً من الكويت إلى أميركا للدراسة على متن إحدى الخطوط الجوية الأجنبية، وعندما وصلت الطائرة إلى أقصى ارتفاع لها عن سطح الأرض، بدأت المضيفات بتقديم الطعام والشراب، وفي الوقت الذي كنت ألاحظ فيه بعض المسافرين، وهم يتجرعون أصنافا مختلفة من المشروبات الروحية، كانت الطائرة تهتز بعنف بفعل المطبات الهوائية! هالني المنظر وراعني هذا الموقف الذي بدا لي متناقضاً، ثم عادت بي الذاكرة إلى سؤال سمعته في حصص التربية الإسلامية: «هل نهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟!» ختم صديقي حديثه ليقول: «لم أكن أعلم في تلك السن المبكرة عن عدم وجود علاقة سببية بين احتساء الشراب وسقوط الطائرة»!
قصتي مع ركوب الطائرة لا تختلف كثيراً عن تجربة صديقي، فكلانا ينتمي إلى البيئة ذاتها، لقد كنت أبلغ من السذاجة حداً إلى درجة أنني كنت أعتقد أن وجود بضعة أطفال على متن الطائرة كفيل بحماية الطائرة من السقوط، فأي قوة خارقة للطبيعة لابد أن تتعاطف مع فكرة وجود أطفال بين المسافرين! لا تخلو هذه الفكرة من أنانية، وربما وضاعة أيضاً، إذ كنت كمَن يحتمي بالأطفال من السقوط، ولكن عذري في ذلك هو أن المناهج الدراسية البائسة التي تعلمتها في الصغر لم تتح لي الفرصة لاستيعاب المعنى العميق لتجارب «جاليليو» حول سقوط الأجسام على الأرض، خصوصاً تلك التجارب التي أجراها من فوق برج بيزا!
أذكر أنني كنت أُكثر من الدعاء مع كل مطب هوائي، وأتعامل مع كل صوت ميكانيكي على أنه بداية لكارثة وشيكة، وكل دعوة إلى ربط الأحزمة هي دعوة إلى التشهد! ليس عندي أدنى شك في أن هذه الحالة المرضية تشكل ظاهرة عامة، ولعل السبب في تفاقم هذه الظاهرة يكمن في سياسة الخطوط الجوية الكويتية في إدراج «دعاء الركوب» ضمن خدماتها! أذكر أيضا أنه في كل مرة تهبط الطائرة فيها بسلام على الأرض، كنت أسارع في ترديد كلمات الشكر والحمد والعرفان، ولم يخطر في بالي قط أن ألتفت إلى قوانين الفيزياء أو حتى تقديم الشكر إلى كابتن الطائرة! كنت سعيداً بأني نجوت ومازلت على قيد الحياة، لكن هذا الشعور لم يكن بلا ثمن، فسعادتي كان يشوبها دائما إحساس بالمهانة والذل والتوسل، وهذا كثير، كثير جداً، مهما طنطن بعضهم بحلاوة الإيمان بوجود قوى خارقة للطبيعة!
إذا قبلت أن تفترض وجود قوة خارقة للطبيعة وقادرة على حفظ الطائرة من السقوط، فعليك أن تتحمل معاناة التفكير بوجود قوة خارقة للطبيعة وقادرة على إسقاط الطائرة! لم أتعلّم هذا الدرس إلا متأخراً، مع الأسف الشديد، لكني على الأقل استطعت تجاوز هذه الحالة المرضية والاستمتاع بعظمة العقل البشري الذي أنتج الطائرة وغيرها من وسائل النقل الحديثة. جميل أن ندرك أن الطبيعة لا تهتم بمشاعرنا ورغباتنا ومخاوفنا، فهذه الفكرة مهمة لسلامة قوانا العقلية والنفسية، مهما بدت متجردة من أي نفحة رومانسية!
أكتب هذا المقال على متن الطائرة، على ارتفاع 33 ألف قدم من سطح الأرض، وبينما يحتسي جاري الأجنبي كأساً من النبيذ، وبينما تتصارع الطائرة مع المطبات الهوائية، أختم هذه السطور بابتسامة مطمئنة، فالطبيعة لا تهتم حتى لمن يبتسم في وجهها، ولعل مصدر اطمئناني هي أنها لا تهتم!
قصتي مع ركوب الطائرة لا تختلف كثيراً عن تجربة صديقي، فكلانا ينتمي إلى البيئة ذاتها، لقد كنت أبلغ من السذاجة حداً إلى درجة أنني كنت أعتقد أن وجود بضعة أطفال على متن الطائرة كفيل بحماية الطائرة من السقوط، فأي قوة خارقة للطبيعة لابد أن تتعاطف مع فكرة وجود أطفال بين المسافرين! لا تخلو هذه الفكرة من أنانية، وربما وضاعة أيضاً، إذ كنت كمَن يحتمي بالأطفال من السقوط، ولكن عذري في ذلك هو أن المناهج الدراسية البائسة التي تعلمتها في الصغر لم تتح لي الفرصة لاستيعاب المعنى العميق لتجارب «جاليليو» حول سقوط الأجسام على الأرض، خصوصاً تلك التجارب التي أجراها من فوق برج بيزا!
أذكر أنني كنت أُكثر من الدعاء مع كل مطب هوائي، وأتعامل مع كل صوت ميكانيكي على أنه بداية لكارثة وشيكة، وكل دعوة إلى ربط الأحزمة هي دعوة إلى التشهد! ليس عندي أدنى شك في أن هذه الحالة المرضية تشكل ظاهرة عامة، ولعل السبب في تفاقم هذه الظاهرة يكمن في سياسة الخطوط الجوية الكويتية في إدراج «دعاء الركوب» ضمن خدماتها! أذكر أيضا أنه في كل مرة تهبط الطائرة فيها بسلام على الأرض، كنت أسارع في ترديد كلمات الشكر والحمد والعرفان، ولم يخطر في بالي قط أن ألتفت إلى قوانين الفيزياء أو حتى تقديم الشكر إلى كابتن الطائرة! كنت سعيداً بأني نجوت ومازلت على قيد الحياة، لكن هذا الشعور لم يكن بلا ثمن، فسعادتي كان يشوبها دائما إحساس بالمهانة والذل والتوسل، وهذا كثير، كثير جداً، مهما طنطن بعضهم بحلاوة الإيمان بوجود قوى خارقة للطبيعة!
إذا قبلت أن تفترض وجود قوة خارقة للطبيعة وقادرة على حفظ الطائرة من السقوط، فعليك أن تتحمل معاناة التفكير بوجود قوة خارقة للطبيعة وقادرة على إسقاط الطائرة! لم أتعلّم هذا الدرس إلا متأخراً، مع الأسف الشديد، لكني على الأقل استطعت تجاوز هذه الحالة المرضية والاستمتاع بعظمة العقل البشري الذي أنتج الطائرة وغيرها من وسائل النقل الحديثة. جميل أن ندرك أن الطبيعة لا تهتم بمشاعرنا ورغباتنا ومخاوفنا، فهذه الفكرة مهمة لسلامة قوانا العقلية والنفسية، مهما بدت متجردة من أي نفحة رومانسية!
أكتب هذا المقال على متن الطائرة، على ارتفاع 33 ألف قدم من سطح الأرض، وبينما يحتسي جاري الأجنبي كأساً من النبيذ، وبينما تتصارع الطائرة مع المطبات الهوائية، أختم هذه السطور بابتسامة مطمئنة، فالطبيعة لا تهتم حتى لمن يبتسم في وجهها، ولعل مصدر اطمئناني هي أنها لا تهتم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق