قضية الساعة في العالم أجمع هي الأزمة الاقتصادية الراهنة، والتي اشتعلت شرارتها الأولى في سوق الرهن العقاري الأميركي، ثم انتقلت إلى سوق الائتمان العالمي، مؤدية بذلك إلى تساقط بعض المصارف الكبرى حول العالم، ولعل التصريح الأخير لرئيس الوزراء البريطاني غوردن براون يكشف عن حجم الكارثة التي يعانيها أنصار «اقتصاد السوق الحرة»، حيث أكد السيد بروان ضرورة الاتفاق على نظام «بريتون وودز» جديد، كما أن بعض الأصوات بدأ يرتفع في الأوساط الاقتصادية حول ضرورة العمل بضريبة «توبن» التي تهدف إلى الحد من المضاربات القصيرة الأجل على العملات. الكارثة، كما يراها المحللون، مازالت في بداياتها، وأريد من خلال هذا المقال أن أستعرض ملامح هذه الكارثة من منظور ماركسي، وسأقتصر على ذكر أهم النقاط التي وردت في تحليل طويل وممتع للمفكر الماركسي آلان وودز.
في مقال له تحت عنوان «الرأسمالية العالمية في أزمة»، يؤكد آلان وودز أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تعتبر نتيجة طبيعية لفترة زمنية طويلة اتسمت بعمليات المضاربة من دون رقيب أو حسيب، والمضاربة بدورها أنتجت فقاعة ضخمة انفجرت أخيرا في وجوه المدافعين عن اقتصاد السوق الحرة! أزمة النظام المصرفي، كما يراها «وودز»، ليست سوى محصلة طبيعية لسلسلة من عمليات المضاربة امتدت إلى أكثر من عقدين من الزمن، وأهم أبطالها هم أصحاب المصارف أنفسهم، كما أن أعضاء مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي مسؤولون عن إشعال فتيل الأزمة، فقد دأبوا في السنوات الأخيرة على اتباع سياسة تهدف إلى خفض متعمد لسعر فائدة الأموال الفدرالية، الأمر الذي ساهم في تشجيع البنوك على الاقتراض المتبادل في ما بينها، مما أدى إلى سهولة الحصول على القدر الكافي من المال للاستمرار في عمليات المضاربة. لقد شارك المحتالون الكبار جميعهم في «كرنفال جني الأرباح»، ولم يكترث أحد بحتمية الكارثة!
يرى «وودز» أن السبب وراء إفلاس المصارف يكمن في أن الجزء الأكبر من الأصول لدى هذه المصارف هي عبارة عن أصول وهمية ناتجة عن عمليات احتيال ليس لها مثيل في القطاع المالي، وبينما كانت الأرباح السريعة تتدفق، لم يكثرث أحد بخطورة تلك الأصول، لكن مع حلول الكارثة أصبحت الأصول الوهمية تحت المجهر، فانعدمت بذلك الثقة بين البنوك وتوقفت عمليات شراء الديون في ما بينها، فالشك المتبادل أضحى سيد الموقف، والمحصلة النهائية هي شلل النظام المصرفي الذي تعتمد عليه حركة تنقل رؤوس الأموال!
يعبر وودز عن اشمئزازه من حجم الظلم المتجذر في النظام الرأسمالي، فعندما كانت المصارف تشهد انتعاشا ووفرة مادية من جرّاء عمليات المضاربة، كان المديرون الكبار يحصلون على عوائد ضخمة في كل عملية ناجحة، بينما لا يحصل الموظفون الصغار إلا على الفتات! في المقابل، عندما عصفت الأزمة المالية بتلك المصارف، فقد الموظفون الصغار وظائفهم من دون الحصول على تعويضات مجزية، بينما استلم الرؤساء الكبار شيكات بمبالغ ضخمة! لكن الأمر المثير للاشمئزاز حقا هو أن تكافىء الحكومات أصحاب المصارف على تهورهم من خلال تعويضهم عن الخسارة من جيب المواطن البسيط!
يسخر «وودز» من الحلول المطروحة للخروج من الأزمة الراهنة، فالذين ينادون الآن بضرورة مراقبة عمل المصارف وتنظيم الحكومات لشؤون الاقتصاد هم أنفسهم من كانوا في الأمس القريب يطالبون بإزالة القيود عن الاقتصاد وتحجيم دور الدولة! يرى وودز أيضا أن التشريعات الحكومية لن تؤدي إلى تنظيم القطاع المصرفي، لأن أصحاب المصارف يملكون ألف طريقة وطريقة للالتفات على التشريعات التنظيمية والرقابية، والطريف في الأمر أن طرق الاحتيال هذه تمارسها الحكومة الأميركية نفسها عندما تضطر إلى محاولة التستر على العجز الحقيقي في الميزانية العامة للدولة!
أخيرا، لعل اعتراضي الوحيد على ما جاء في مقال وودز يكمن في محاولاته المستمرة في إثبات صحة «التنبؤات العلمية الماركسية» حول مصير الرأسمالية، وعلى الرغم من استشهاده ببعض الفقرات من المجلد الثالث لكتاب «رأس المال»، فإن من الحكمة ألاّ نبالغ في قدرة ماركس على الارتقاء بعلم الاقتصاد إلى مرتبة العلوم الطبيعية، وهذه نقطة مهمة تناولها المفكر النمساوي الأصل كارل بوبر في كتابه «The Open Society and Its Enemies»، وقد نتطرق إليها في مقال لاحق.
الجمعة، 31 يوليو 2009
الأزمة الاقتصادية من منظور ماركسي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق