لا أذكر، على وجه التحديد، آخر مرة دخلت فيها المسجد، لكن عندما تعود بي الذاكرة إلى أيام الصبا، فإن أجمل الذكريات هي ذكريات المسجد! أذكر، مثلا، أنني كنت طمّاعا في جني الحسنات، فبدلا من أن أسلك طريقا مباشرا إلى المسجد، اعتدت البحث عن أكثر الطرق تعرجا، مستفيدا بذلك من القانون الذي ينص على أن طول المسافة يتناسب تناسبا طرديا مع حجم الأجر. أتذكر أيضاً وقوفي وسط المصلين، مستقبلا القبلة لأداء تحية المسجد، مرتديا «دشداشة» صينية الصنع ونصف مبللة بفعل الوضوء، وعلى رأسي «غترة» طويلة تناوش أطرافها ركبتيّ. كنت أحرص على إغماض عينيّ أثناء الصلاة، معتقدا أن مقدار الخشوع يعتمد على شدة الإغماض، ومع كل نفحة هواء باردة من «المكيف»، كنت أظن صادقا أنني ازددت قرباً من أبواب الجنة. كانت ذكريات جميلة لطفولة بريئة، لا أكثر ولا أقل!
في أيام الجمعة، كنت أطيّب ثيابي، وأضع المسواك في جيبي، ثم أخرج مبكرا إلى المسجد كي لا تفوتني خطبة الجمعة، وبمجرد وصولي أبحث عن ركن أجلس فيه لتلاوة القرآن، وكنت أجد لذة لا تضاهى في محاولة اختبار مدى استيعابي لدروس التجويد، فهذه علامة وقف، وتلك علامة تشير إلى مدّ بمقدار ست حركات، والأخرى بمقدار أربع حركات، وهنا يجب الإدغام بغنّة، وهناك حرف من حروف الإظهار، وهذا حرف يوجب التفخيم، والآخر يتطلب الترقيق، وهكذا إلى أن يعتلي الإمام المنبر إيذانا ببدء الخطبة، وعندما تنقضي الصلاة، كنت أنظر بعين غاضبة إلى تدافع أغلب المصلين وتسابقهم في الخروج وكأن حريقا شبّ بالمسجد! كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، لا أكثر ولا أقل! أتذكر أيضا إمام مسجدنا آنذاك، كان يدعى «الشيخ إسماعيل»، وهو رجل وقور من أرض الكنانة، له صوت عذب، وقلب طيب، وابتسامة مشرقة! درست القرآن على يديه منذ نعومة أظافري، وكنت أشعر بشيء من الفخر والخيلاء عندما يطلب مني أن أتلوَ عليه بعضاً من آيات الذكر الحكيم، وبمجرد أن أنتهي من التلاوة، يتفوّه شيخي الجليل بجملة لطالما أطربني سماعها: «فتح الله عليك يا بني»! كان يعقد عليّ آمالا كبيرة، لكن يبدو أني خيبت ظنه بي، ولعل ذلك من سوء حظه، ومن حسن حظي! كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، لا أكثر ولا أقل!
يختار المتسولون عادة الجلوس على عتبة المسجد، وهو خيار حكيم من ناحية الجدوى الاقتصادية، فالمتسول يدرك جيدا أن من يذهب إلى المسجد يبحث عن الأجر من السماء، ومن يبحث عن الأجر من السماء لا يبخل في تقديم صدقة إلى فقير على باب المسجد، وهنا تحديدا يعود السبب إلى تكاثر المتسولين على أبواب المساجد! عندما ألتقي بأحد هؤلاء المتسولين، كنت لا أتردد في إخراج قطعة من النقود ووضعها في يده، طمعا في الأجر حينا، وخوفا من عقدة الذنب أحيانا كثيرة! أما الآن فلم يعد تحصيل الأجر يقلقني كثيرا، لكن العمر الافتراضي لعقدة الذنب كان أطول بكثير مما كنت أتصور، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن جرعة الترهيب في طفولتي كانت أشد بكثير من جرعة الترغيب!
أجل، كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، ولو كانت عكس ذلك، لما أتاح لي قانون المطبوعات أن أتذكر!
في أيام الجمعة، كنت أطيّب ثيابي، وأضع المسواك في جيبي، ثم أخرج مبكرا إلى المسجد كي لا تفوتني خطبة الجمعة، وبمجرد وصولي أبحث عن ركن أجلس فيه لتلاوة القرآن، وكنت أجد لذة لا تضاهى في محاولة اختبار مدى استيعابي لدروس التجويد، فهذه علامة وقف، وتلك علامة تشير إلى مدّ بمقدار ست حركات، والأخرى بمقدار أربع حركات، وهنا يجب الإدغام بغنّة، وهناك حرف من حروف الإظهار، وهذا حرف يوجب التفخيم، والآخر يتطلب الترقيق، وهكذا إلى أن يعتلي الإمام المنبر إيذانا ببدء الخطبة، وعندما تنقضي الصلاة، كنت أنظر بعين غاضبة إلى تدافع أغلب المصلين وتسابقهم في الخروج وكأن حريقا شبّ بالمسجد! كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، لا أكثر ولا أقل! أتذكر أيضا إمام مسجدنا آنذاك، كان يدعى «الشيخ إسماعيل»، وهو رجل وقور من أرض الكنانة، له صوت عذب، وقلب طيب، وابتسامة مشرقة! درست القرآن على يديه منذ نعومة أظافري، وكنت أشعر بشيء من الفخر والخيلاء عندما يطلب مني أن أتلوَ عليه بعضاً من آيات الذكر الحكيم، وبمجرد أن أنتهي من التلاوة، يتفوّه شيخي الجليل بجملة لطالما أطربني سماعها: «فتح الله عليك يا بني»! كان يعقد عليّ آمالا كبيرة، لكن يبدو أني خيبت ظنه بي، ولعل ذلك من سوء حظه، ومن حسن حظي! كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، لا أكثر ولا أقل!
يختار المتسولون عادة الجلوس على عتبة المسجد، وهو خيار حكيم من ناحية الجدوى الاقتصادية، فالمتسول يدرك جيدا أن من يذهب إلى المسجد يبحث عن الأجر من السماء، ومن يبحث عن الأجر من السماء لا يبخل في تقديم صدقة إلى فقير على باب المسجد، وهنا تحديدا يعود السبب إلى تكاثر المتسولين على أبواب المساجد! عندما ألتقي بأحد هؤلاء المتسولين، كنت لا أتردد في إخراج قطعة من النقود ووضعها في يده، طمعا في الأجر حينا، وخوفا من عقدة الذنب أحيانا كثيرة! أما الآن فلم يعد تحصيل الأجر يقلقني كثيرا، لكن العمر الافتراضي لعقدة الذنب كان أطول بكثير مما كنت أتصور، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن جرعة الترهيب في طفولتي كانت أشد بكثير من جرعة الترغيب!
أجل، كانت تلك ذكريات جميلة لطفولة بريئة، ولو كانت عكس ذلك، لما أتاح لي قانون المطبوعات أن أتذكر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق