للتعليم دور كبير في تشكيل عقل التلميذ، فالتلاميذ يتأثرون سلبا أو إيجابا بمحتوى المنهج الدراسي، ومن هذه الحقيقة يمكن أن نصل إلى استنتاج بسيط وسؤال شائك، أما الاستنتاج فيشير إلى أن هناك مسؤولية تقع على عاتق المعلم تجاه التلاميذ، وأما السؤال فيتعلق بمشكلة الاتفاق على معيار نحدد من خلاله الفرق بين التأثير السلبي والتأثير الإيجابي على عقول التلاميذ. هناك شبه إجماع في بلد مثل الكويت على ماهية هذا المعيار، وهو معيار يدور في فلك الدين والعادات والتقاليد، لكني سأتبنى من خلال هذا المقال معيارا آخر، وسوف أبيِّن من خلاله متى يكون تأثير التعليم على عقل الطفل سلبيا، ومتى يكون إيجابيا.
أنماط التفكير غير العلمي كثيرة ومتعددة، منها ما يسمى بـ«التفكير الدائري»، وكي أوضح المقصود بهذا النوع من التفكير، سأستعين بمثال افتراضي بسيط على النحو التالي:
أثناء القراءة، وقعت عيناي على كلمة غريبة لا أعرف معناها، ولنفرض أن الكلمة هي X، ولتفادي هذه المشكلة، استعنت بالقاموس لأجد أن «X معناها Y»، لكني لا أعرف أيضا معنى Y، لذا بحثت عن تعريفها لأجد أن «Y معناها Z»، ولأني أجهل أيضا معنى Z، بحثت من جديد عن معناها لأجد أن «Z معناها X»! بعد أن تبين لي أن القاموس عاد بي من جديد إلى الكلمة نفسها التي أرغب في معرفة معناها، أدركت أني كنت ضحية قاموس رديء يعتمد على طريقة غير مجدية في التعريف، وهو تعريف يسميه طلاب علم المعاجم «التعريف الدائري»، بينما يسميه طلاب علم الرياضيات «التعريف التكراري» أو recursive definition.
التفكير الدائري شبيه بهذا النوع من التعريف، فهو يبدأ بفكرة لينتهي بالفكرة ذاتها، والسبب في كونه تفكير غير علمي يكمن في حقيقة أنه لا يصلح أن يكون أساسا لتفسير أي شيء، ذلك أن آلية التفسير المنطقي تشترط ألاّ تحتوي الجملة التفسيرية على مفردات ما يُراد تفسيره، والإخلال بهذا الشرط سيؤدي إلى تكرار لامنتاهٍ وعديم الفائدة! هنا تحديدا يكمن السبب في أهمية وجود «مقدمات» في علم المنطق، و«معطيات» في علم الرياضيات، و«فرضيات» في العلوم الطبيعية، فمن خلال المقدمات نصل إلى نتيجة منطقية، وبواسطة المعطيات نصل إلى برهان رياضي، وعن طريق الفرضيات نصل إلى استنتاج علمي، وبذلك نكون قد تفادينا التكرار اللامتناهي لتفسير الأشياء من حولنا.
قبل سنوات، وبينما كنت أركن سيارتي قرب إحدى المدارس، سمعت تلميذا يصرخ في وجه زميله قائلا له: «لا تكذب»، فاقتربت منه ليدور بيننا الحوار التالي:
لماذا أمرت زميلك ألاّ يكذب؟
لأن الكذب حرام
لماذا الكذب حرام؟!
لأن الدين أمر بذلك
لماذا أمر الدين بذلك؟
لأن الله قال ذلك
ولماذا قال الله ذلك؟
لأن الكذب حرام!!
لعل القارىء لاحظ هذا التشابه بين طريقة التلميذ في التفكير وطريقة القاموس في التعريف، فكلاهما يبدأ بنقطة ليعود من جديد إلى النفطة نفسها، ومثلما فشل القاموس في تعريف كلمة X، أخفق التلميذ في تفسير تحريم الكذب! لست ألوم هذا التلميذ، فهو ليس سوى ضحية تعليم يحتوي على العديد من أنماط التفكير غير العلمي. لكن لو كان لدينا تعليم جيد، فكيف ستكون إجابة التلميذ عن سؤالي؟ سأطلق العنان لخيالي لأتصور إجابة التلميذ على النحو التالي:
أولاً، سيصمت التلميذ لبعض الوقت محاولا التفكير في السؤال عن لاأخلاقية الكذب، وهذه عادة حميدة قلّما نجدها في مجتمعاتنا العربية، فنحن نميل إلى الإجابة الفورية من دون التروي قليلا ومحاولة التفكير بعمق في إجابة مقنعة، فلحظات الصمت قبل الإجابة لا تعني بالضرورة عدم القدرة على الإجابة، بل لعلها تدل على التعامل بجدية مع السؤال المطروح. ثانيا، يبدأ التلميذ في الإجابة قائلا: «دعنا نتفق أولا على حقيقة أن كل فعل غير أخلاقي يقود إلى نتائج سلبية، ودعنا نتفق ثانيا على أن انعدام الثقة يشير إلى نتيجة سلبية، إذا قبلت بصحة هذا القدر من المقدمات فستقبل حتما بصحة أن الكذب فعل غير أخلاقي، لأنه فعل يؤدي إلى نتيجة سلبية مثل انعدام الثقة»!
إذا غفر لي القارىء هذا القدر الكبير من الخيال، فإنه سيتفق معي على أن إجابة التلميذ في هذه الحالة لم تقع فريسة للتفكير الدائري، فهي إجابة مشروطة بقبول بعض المقدمات للوصول إلى نتيجة منطقية، وقد نعترض على صحة الإجابة عن طريق الاعتراض على صحة المقدمات، لكننا لا نملك القبول بصحة المقدمات من دون القبول بصحة الاستنتاج. هذه أمور كانت تبدو بديهية منذ أن نشر أرسطو كتابه Organon، لكن مازلنا نتخيل ونتمنى أن يجد هذا النمط من التفكير مكانا له في عقول التلاميذ، ويبدو أن أمراً كهذا مستحيل، فالتعليم جزء من البيئة، وبيئتنا تتخذ من التفكير الغيبي أساسا لتفسير كل شيء، والتفكير الغيبي لا يعتمد على مقدمات ونتائج، بل على مسلمات وأوامر!
أنماط التفكير غير العلمي كثيرة ومتعددة، منها ما يسمى بـ«التفكير الدائري»، وكي أوضح المقصود بهذا النوع من التفكير، سأستعين بمثال افتراضي بسيط على النحو التالي:
أثناء القراءة، وقعت عيناي على كلمة غريبة لا أعرف معناها، ولنفرض أن الكلمة هي X، ولتفادي هذه المشكلة، استعنت بالقاموس لأجد أن «X معناها Y»، لكني لا أعرف أيضا معنى Y، لذا بحثت عن تعريفها لأجد أن «Y معناها Z»، ولأني أجهل أيضا معنى Z، بحثت من جديد عن معناها لأجد أن «Z معناها X»! بعد أن تبين لي أن القاموس عاد بي من جديد إلى الكلمة نفسها التي أرغب في معرفة معناها، أدركت أني كنت ضحية قاموس رديء يعتمد على طريقة غير مجدية في التعريف، وهو تعريف يسميه طلاب علم المعاجم «التعريف الدائري»، بينما يسميه طلاب علم الرياضيات «التعريف التكراري» أو recursive definition.
التفكير الدائري شبيه بهذا النوع من التعريف، فهو يبدأ بفكرة لينتهي بالفكرة ذاتها، والسبب في كونه تفكير غير علمي يكمن في حقيقة أنه لا يصلح أن يكون أساسا لتفسير أي شيء، ذلك أن آلية التفسير المنطقي تشترط ألاّ تحتوي الجملة التفسيرية على مفردات ما يُراد تفسيره، والإخلال بهذا الشرط سيؤدي إلى تكرار لامنتاهٍ وعديم الفائدة! هنا تحديدا يكمن السبب في أهمية وجود «مقدمات» في علم المنطق، و«معطيات» في علم الرياضيات، و«فرضيات» في العلوم الطبيعية، فمن خلال المقدمات نصل إلى نتيجة منطقية، وبواسطة المعطيات نصل إلى برهان رياضي، وعن طريق الفرضيات نصل إلى استنتاج علمي، وبذلك نكون قد تفادينا التكرار اللامتناهي لتفسير الأشياء من حولنا.
قبل سنوات، وبينما كنت أركن سيارتي قرب إحدى المدارس، سمعت تلميذا يصرخ في وجه زميله قائلا له: «لا تكذب»، فاقتربت منه ليدور بيننا الحوار التالي:
لماذا أمرت زميلك ألاّ يكذب؟
لأن الكذب حرام
لماذا الكذب حرام؟!
لأن الدين أمر بذلك
لماذا أمر الدين بذلك؟
لأن الله قال ذلك
ولماذا قال الله ذلك؟
لأن الكذب حرام!!
لعل القارىء لاحظ هذا التشابه بين طريقة التلميذ في التفكير وطريقة القاموس في التعريف، فكلاهما يبدأ بنقطة ليعود من جديد إلى النفطة نفسها، ومثلما فشل القاموس في تعريف كلمة X، أخفق التلميذ في تفسير تحريم الكذب! لست ألوم هذا التلميذ، فهو ليس سوى ضحية تعليم يحتوي على العديد من أنماط التفكير غير العلمي. لكن لو كان لدينا تعليم جيد، فكيف ستكون إجابة التلميذ عن سؤالي؟ سأطلق العنان لخيالي لأتصور إجابة التلميذ على النحو التالي:
أولاً، سيصمت التلميذ لبعض الوقت محاولا التفكير في السؤال عن لاأخلاقية الكذب، وهذه عادة حميدة قلّما نجدها في مجتمعاتنا العربية، فنحن نميل إلى الإجابة الفورية من دون التروي قليلا ومحاولة التفكير بعمق في إجابة مقنعة، فلحظات الصمت قبل الإجابة لا تعني بالضرورة عدم القدرة على الإجابة، بل لعلها تدل على التعامل بجدية مع السؤال المطروح. ثانيا، يبدأ التلميذ في الإجابة قائلا: «دعنا نتفق أولا على حقيقة أن كل فعل غير أخلاقي يقود إلى نتائج سلبية، ودعنا نتفق ثانيا على أن انعدام الثقة يشير إلى نتيجة سلبية، إذا قبلت بصحة هذا القدر من المقدمات فستقبل حتما بصحة أن الكذب فعل غير أخلاقي، لأنه فعل يؤدي إلى نتيجة سلبية مثل انعدام الثقة»!
إذا غفر لي القارىء هذا القدر الكبير من الخيال، فإنه سيتفق معي على أن إجابة التلميذ في هذه الحالة لم تقع فريسة للتفكير الدائري، فهي إجابة مشروطة بقبول بعض المقدمات للوصول إلى نتيجة منطقية، وقد نعترض على صحة الإجابة عن طريق الاعتراض على صحة المقدمات، لكننا لا نملك القبول بصحة المقدمات من دون القبول بصحة الاستنتاج. هذه أمور كانت تبدو بديهية منذ أن نشر أرسطو كتابه Organon، لكن مازلنا نتخيل ونتمنى أن يجد هذا النمط من التفكير مكانا له في عقول التلاميذ، ويبدو أن أمراً كهذا مستحيل، فالتعليم جزء من البيئة، وبيئتنا تتخذ من التفكير الغيبي أساسا لتفسير كل شيء، والتفكير الغيبي لا يعتمد على مقدمات ونتائج، بل على مسلمات وأوامر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق