صورة الكون كآلة ضخمة مكونة من ذرات يتصادم بعضها بعضا وتحكمها قوانين ميكانيكية ساهمت إلى حد كبير في عزل عالم الأشباح عن عالم الطبيعة، وأدت إلى إرساء قواعد العلم الحديث.
«بدلاًمن أن تتمنوا السلطة والمال والبنين، صلّوا من أجل امتلاك عقل سليم في جسم سليم»! هذا بيت من قصيدة عمرها شارف على ألفي عام، للشاعر الروماني «جوفينال»، ومنه انتشر المثل الشهير «العقل السليم في الجسم السليم»، ومن الواضح أن هناك اختلافاً بين المعنى الذي أراده «جوفينال» والمعنى الشائع، فالشاعر لم يتطرق إلى علاقة مشروطة بين العقل والجسم، بينما يشير المثل الشائع إلى سلامة الجسم كشرط لسلامة العقل! لكن ما طبيعة هذه العلاقة الغريبة بين شيء مادي وملموس مثل الجسم بشيء لامادي وغير ملموس مثل العقل؟ من البديهي أن نفترض وجود علاقة متبادلة بين الجسم والعقل، فكلاهما يؤثر في الآخر، فالشعور بالألم الجسدي، مثلا، يعتبر مظهراً من مظاهر تأثير الجسم على العقل، والرغبة في المشي تعد شكلاً من أشكال تأثير العقل على الجسم، فلولا تسوّس الضرس لما شعرتَ بالألم، ولولا رغبتك في إطلاق قدميك لما تحركت من مكانك!
لكن السؤال الذي مازال يحير الفلاسفة وعلماء الطبيعة على حد سواء هو التالي: إذا كانت طبيعة العقل اللامادية تختلف اختلافاً كلياً عن طبيعة الجسم المادية، فكيف يستطيع كل منهما التأثير في الآخر؟ نحن نعلم أن تأثير جسم في جسم آخر يمكن شرحه عن طريق قوانين فيزيائية، ونعلم أيضا أن تأثير فكرة في فكرة أخرى يمكن استيعابه من خلال قوانين سيكولوجية، ولكن هل يتطلب التأثير المتبادل بين العقل والجسم قوانين سيكوفيزيائية؟ ما طبيعة هذه القوانين، إنٌ وجدت؟ لا أحد يعرف!
حسب فلسفة «ديكارت»، إلى جانب وجود الله، هناك نوعان من الموجودات: العقل والمادة، وكل منهما يمتاز بخصوصية تختلف عن الأخرى. المادة تمتلك خصوصية الامتداد، أي أنها تشغل حيزا في الفراغ، وسبب لجوء «ديكارت» الى هذه الخصوصية على وجه التحديد هو تأثره بالهندسة الإقليدية، أما العقل فيمتاز بخصوصية التفكير. حاول «ديكارت» أيضا تحديد مكان التفاعل بين العقل والجسم، ووقع اختياره على الغدة الصنوبرية في الجهة الظهرية للدماغ لأسباب لامجال لذكرها الآن، وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاختيار، فإن محاولة «ديكارت» اقتصرت على معرفة مكان التفاعل بين عقل الإنسان وجسمه، ولكنها لم تقدم جواباً عن السؤال الرئيسي المتعلق بكيفية هذا التفاعل. بعد موت «ديكارت»، لم يجد تلامذته مخرجاً من هذه المعضلة سوى افتراض أن «الله» هو الذي يحدد أين وكيف يحدث التفاعل بين العقل والجسم. لاحظ أن تلامذة «ديكارت»، مثل أستاذهم، لايجيبون عن السؤال الرئيسي، فافتراضهم يحدد فقط مَن يتحكم بالتفاعل بين الجسم و العقل، ولكنه لا يشرح كيفية هذا التفاعل!
في العصر القديم وطوال فترة القرون الوسطى، كان عالم الأرواح يمتزج بعالم الطبيعة، وكان التفسير الخرافي للظواهر الطبيعية هو القاعدة، ولكن الصورة بدأت تتغير شيئاً فشيئاً مع قدوم «كبلر» و«جاليليو»، ثم جاء «ديكارت» ليساهم في وضع أسس الفلسفة الميكانيكية، فهذا الكون بما فيه ليس سوى آلة ضخمة مكونة من ذرات تتصادم مع بعضها بعضا، حسب قوانين الحركة. ماذا عن موقع الإنسان في هذه الآلة الضخمة؟ بالنسبة لديكارت، جسم الإنسان عبارة عن آلة صغيرة، ولكنها آلة فريدة، آلة عاقلة، آلة مسكونة! ثنائية العقل والجسم على طريقة «ديكارت» لم تعجب الفيلسوف البريطاني «رايل»، فقام بتأليف كتاب بعنوان «مفهوم العقل»، متهماً «ديكارت» بتشويه صورة العقل وعلاقته بالدماغ، وساخراً من فكرة «الشبح في الآلة»، أي العقل في الجسم، أو الروح في الجسد!
صورة الكون كآلة ضخمة مكونة من ذرات يتصادم بعضها بعضا وتحكمها قوانين ميكانيكية ساهمت إلى حد كبير في عزل عالم الأشباح عن عالم الطبيعة، وأدت إلى إرساء قواعد العلم الحديث، لكن سرعان ما اهتزت هذه الصورة مع قدوم «نيوتن»، فعلى الرغم من النجاح الباهر لقوانين «نيوتن» ودعمها للنظرة الميكانيكية للكون، فإن قانون الجاذبية تضمن مبدأ «التأثير عن بعد»، فالتجاذب بين القمر والأرض، مثلا، لا يحدث عن طريق التلامس، بينما شرط التلامس هو أهم مبادئ الفلسفة الميكانيكية! اعترض العديد من العلماء على مبدأ «التأثير عن بعد» واعتبروه بمنزلة عودة إلى زمن الخرافة والأساطير! أجمل تعليق سمعته حول هذه الحادثة هو تعليق البروفيسور «تشومسكي»: «نيوتن حطّم الآلة، لكن الشبح مازال هائماً»!!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
الشبح في الآلة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق