المظاهرة السلمية وسيلة حضارية إلى لفت انتباه الرأي العام نحو قضية يراها المتطاهرون أولوية، ونجاح أي مظاهرة من هذا النوع يعتمد على مدى قدرة المتظاهرين على إقناع الرأي العام بعدالة قضيتهم. لكن معظم ما نراه في هذه الأيام من مظاهرات عارمة في عواصم العالم لا يمكن وصفه بالتظاهر السلمي، فشعارات العنصرية والكراهية، وتحطيم المحلات التجارية والمرافق العامة، ورشق رجال الشرطة بالأحذية، كلها ممارسات تدل على أننا أمام حشود من البشر لا تهتم بلفت انتباه الرأي العام بقدر اهتمامها بالتعبير عن حالة من الغضب والغليان تجاه ما يحدث في غزة. شعار «الموت لليهود» قد يشفي غليل المتظاهرين، لكنه يظهرهم أيضا بصورة سفاكي الدماء وقُطَّاع الطريق، وتحطيم المرافق العامة قد يخفف من حدة الغضب، لكنه يشير أيضا إلى أننا أمام مجموعة من الغوغائيين، ورشق رجال الشرطة بالأحذية قد يؤدي إلى شيء من التنفيس، لكنه يدل أيضا على الفشل في اختيار لغة مناسبة للحوار. بعبارة مختصرة، نحن أمام مثال صارخ على تلك الحالة التي تكون فيها القضية عادلة والمحامي فاشل.
عملياً، من المستحيل إقناع المئات من الحشود الغاضبة في أهمية الاحتكام إلى العقل، فهذه عملية في غاية الصعوبة حتى عندما يتعلق الأمر بشخص واحد فقط، لكن ضبط النفس هو السبيل الوحيد إلى إقناع الرأي العام بعدالة القضية الفلسطينية، هذا مع افتراض أن الهدف من المظاهرات هو إقناع الرأي العام، لكن إذا كان الهدف هو مجرد تنفيس عن هستيريا مرضية وبكاء جماعي وحقد متوارث، فلست أدري ما قيمة الكشف عن هذه المظاهر النفسية على الملأ من خلال وسائل الإعلام، وما مدى فرصة نجاحها في التخفيف من حجم الكارثة في قطاع غزة؟
الجانب الآخر من لاعقلانية هذه المظاهرات يشير إلى ازدواجية مؤسفة في تحديد قيمة الإنسان، فمهما حاول المتظاهرون في الدول العربية التأكيد على الجانب الإنساني في محنة غزة، فإن الحقيقة تشير إلى أننا لا ندين حربا إلا إذا كنا ضحاياها، ذلك أن مبدأ الخروج إلى الشارع لا يبدو مرتبطاً برفض الحرب كمفهوم لاإنساني، بل لنصرة ضحية تنتمي إلى المربع ذاته. بمعنى آخر، التظاهر ليس من أجل الفلسطيني كإنسان، بل من أجل الفلسطيني كعربي مسلم. لماذا لم نشهد حتى هذه اللحظة مظاهرة واحدة فقط ضد حرب لسنا فيها الضحية، أو لا تربطنا مع الضحية رابطة دم أو دين؟ نحن على أهبة الاستعداد لحرق السفارات ورفع الشعارات الغاضبة حتى لو كان الأمر يتعلق برسوم كاريكاتورية، لكننا لا نحرك ساكناً ولا تهتز لنا شعرة عند سماعنا عن مذبحة إفريقية يقدر عدد ضحاياها بمئات الألوف! القتل كجريمة بشعة لا يهمنا، ما يهمنا فقط هو معرفة من المقتول، فإن كان صديقاً أقمنا المآتم، وإن كان عدواً أقمنا الأفراح، وإن كان لا هذا ولا ذاك التزمنا الصمت!
من جانب آخر، طالب بعض المتظاهرين بقية الدول العربية بالتدخل العسكري لردع العدوان الإسرائيلي، وهي مطالبة تنم عن انفصام كلي عن الواقع، كما أنها تدل على أن حاضرنا لايزال محكوما بماضينا، فحتى مع الاعتراف بوجود عناصر تاريخية مشتركة بين هذه الدول من ناحية الثقافة والدين واللغة، فإن ذلك لا يكفي لضمان وجود مصالح سياسية مشتركة، فنحن في نهاية المطاف أمام دول منفصلة سياسيا وجغرافيا، تتقارب من حيث الأهداف حينا، وتتضارب من حيث المصالح أحيانا كثيرة، وإذا كان الاستعمار الخارجي القديم هو من شتت شملها، فإن الاستعمار الداخلي الأقدم هو من أجبر هذه الشعوب من المحيط إلى الخليج على تقاسم تاريخ موحّد!
الجمعة، 31 يوليو 2009
ملامح اللاعقلانية في المظاهرة من أجل غزة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق