أثناء مرحلة الدراسة الجامعية، قالت لنا أستاذة الأدب الإسباني إن هناك أديباً ألمانياً قرر تعلم اللغة الإسبانية لسبب واحد فقط، وذلك من أجل أن يتمكن من قراءة رواية «دون كيخوته» بلغتها الأصلية! لست أستكثر هذا المديح المبطن لهذه الرواية الخالدة، بل إني لا أستكثر أن يتخذ الأديب الروسي «دوستويفسكي» من هذه الرواية شفيعاً للإنسانية حيث يقول: «عندما يأتي يوم الحساب ونقف أمام الرب، فإن الإنسانية كلها ستهتف بصوت واحد: اغفر لنا يا رب، فبرغم كل خطايانا، استطعنا على الأقل أن نكتب «دون كيخوته»!
نعم، من اليسير أن أصدّق ما قالته أستاذتي، فبالرغم من مرور أكثر من أربعة قرون على صدورها، مازالت هذه الرواية العظيمة تثير عقول النقاد والأدباء، ومازالت المؤتمرات والحلقات الأدبية تُعقد حول هذه الرواية التي نالت من الشهرة ما لم ينله «ميغيل دي ثيربانتس» نفسه! لكن الأمر الذي استوقفني في حديث أستاذتي هو فكرة أن يتحمل إنسان مشقة دراسة لغة أجنبية من أجل قراءة كتاب في لغته الأصلية، و هو أمر يدل بلا شك على فضول كبير في طلب المعرفة، بل والتلذذ بها أيضا! قد لا يتمكن ذلك الأديب الألماني من قراءة الرواية، لكنه استطاع على الأقل أن يخطو الخطوة الأولى نحو تعلم لغة جديدة، وهنا تحديدا يكمن الأثر الإيجابي للفضول المعرفي، فهو فضول لا يحرمك جني الفائدة حتى لو أخفقت في الوصول إلى هدفك!
قبل أربع سنوات تقريبا، كنت مع صديق في إحدى مكتبات لندن، وقد لاحظت أن صديقي اشترى كتابا ضخما تجاوزت صفحاته الألف صفحة، وكان العنوان الرئيسي للكتاب The Road to Reality، وأما عنوانه الفرعي فهو A Complete Guide to the Laws of the Universe، ومؤلف الكتاب هو أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة اكسفورد السير «روجر بينروس». سألت صديقي عن سر شراء هذا الكتاب الضخم، فأجابني بنرة غاضبة: «قرأت المقدمة فشعرت أن الكاتب أهان ذكائي، لذا قررت شراء الكتاب»! لم أستوعب ما قاله صديقي، وبعد أن طلبت منه أن يسهب قليلا، أجابني:
«في مقدمة الكتاب، يحذر الكاتب القراء من أن الكتاب صعب جدا، فهو كتاب يتطلب معرفة مسبقة بعلوم الرياضيات والفيزياء والمنطق، بالإضافة أيضا إلى فلسفة العلوم وتاريخها! لم ألتفت إلى نصيحة الكاتب، وبدأت أتصفح الكتاب، ثم شعرت بإهانة نفسية بالغة عندما اكتشفت أني لم أفهم شيئا على الإطلاق»!
ضحكت مما سمعته من صديقي، ثم قلت له ممازحا: «جميل أن نغضب من جهلنا، لكن الأجمل أن يستمر هذا الغضب»!
دارت الأيام ومرّت السّنون، وفي كل مرة أسأل فيها صديقي عن الكتاب، أحصل منه على الإجابة نفسها:
«مازال قابعا في مكتبتي، وأعترف أني أتحاشى مجرد النظر إليه كي لا أشعر بمرارة الجهل، ولكني أقسمت على نفسي أن أستعد لقراءة هذا الكتاب عن طريق الإلمام أولا بالعلوم الطبيعية، حتى لو كلفني هذا الاستعداد العمر كله! صحيح أني لم أقرأ الكتاب إلى هذه اللحظة، لكني قرأت عشرات الكتب في سبيل الوصول إلى هدفي. لم أكن أتصور أن الشعور بالإهانة يبلغ من القوة هذا الحد»!
مازال صديقي يشعر بالإهانة، لكنها على أي حال إهانة مفيدة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق