كثيرا ما نسمع جملة "هذه هي الديمقراطية"، وعادة ما تأتي هذه الجملة على شكل دعوة لاحترام رأي الأغلبية، أي بعد انتصار طرف على طرف آخر وحصوله على أكبر عدد من الأصوات من خلال عملية اقتراع، لكن هل فعلا "هذه هي الديمقراطية"؟ يبدو أن الجميع متفق على أن حجم العدد هو الذي يحدد نوعية القرار، لذا فإن المقصود باحترام رأي الأغلبية هو في حقيقة الأمر مجرد دعوة لاحترام العلاقة بين "حجم العدد" و"نوعية القرار"· إذا كان هذا صحيحا، فإني أطرح السؤال التالي: هل احترام رأي الأغلبية مطلق وغير مشروط، أم أنه احترام نسبي ومشروط؟ هذا المقال هو محاولة للإجابة عن هذا السؤال·
أولئك الذين لا يملون من ترديد عبارة "هذه هي الديمقراطية" يميلون إلى الاعتقاد بالرأي الأول، أي أن احترام رأي الأغلبية بالنسبة لهم مطلق وغير مشروط، وهذا الاعتقاد يقود إلى انتهاكين على الأقل لمفهوم الديمقراطية· الانتهاك الأول يتعلق بالتغاضي عن مدى مشروعية الطريقة التي تم من خلالها تشكيل رأي الأغلبية، فنحن نعلم أن رأي الأغلبية لا يعبر بالضرورة عن حاصل جمع إرادة كل فرد على حدة، فمن الأفراد من يغريهم بريق المال، ومنهم من تخيفهم فتوى دينية، ومنهم من تسعبدهم رابطة دم! وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أوسع، فإن تشكيل رأي الأغلبية غالبا ما يعبر عن رأي مؤسسات إعلامية ضخمة تنحصر وظيفتها في إبراز آراء معينة وإهمال بقية الآراء، وهذا ما يحدث للأسف الشديد في أغلب الدول التي لها تاريخ طويل من الممارسة الديمقراطية! أما في الدول القمعية، فإن تزوير إرادة الأغلبية تتم بطريقة مباشرة وسافرة!
الانتهاك الثاني يتعلق بنوعية رأي الأغلبية وأثر هذا الرأي على الحقوق الأولية للفرد· إذا نظرنا إلى احترام رأي الأغلبية على أنه احترام مطلق وغير مشروط، فهذا يعني أننا لا نكترث بالحقوق الأولية للفرد وبمدى تأثير هذه الحقوق سلبا برأي الأغلبية· ألست توافقني الرأي، عزيزي القارىء، في أن من يدعو إلى احترام غير مشروط لرأي الأغلبية سيكون منسجما مع نفسه لو دعا أيضا إلى احترام رأي أغلبية تريد سحق أقلية وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية! نعم، إلى مثل هذا النوع من الحماقة تقودنا الدعوة العمياء إلى احترام مطلق وغير مشروط لرأي الأغلبية! الديمقراطية الحقيقية لا تحمينا فقط من ديكتاتورية الفرد، بل من دكتاتورية الجماعة أيضا، ودكتاتورية الجماعة لها أشكال مختلفة، فمرة تأتي في صورة العادات والتقاليد الاجتماعية، ومرة في صورة الاعتقاد الديني السائد، ومرة في صورة الانتماء إلى وطن أو إلى تاريخ مشترك!
ديكتاتورية الأغلبية نجدها حاضرة بقوة في مجتمع نمطي تسوده نظرة أحادية، نظرة غير متسامحة مع أية نظرة مغايرة، وعندما يتم تعميم هذه النظرة الأحادية على التعليم، فإن النتيجة الطبيعية ستكون كارثة بكل المقاييس! في أيدينا أن نخلق جيلا كاملا بواسطة القالب نفسه، جيل لم يستمع إلا لوجهة النظر الرسمية، جيل أسير لسلسلة طويلة من سلطة الموروث الاجتماعي والديني والسياسي· لكن في أيدينا أيضا أن نعمل على خلق جيل يؤمن بالتعدد والانسجام في الوقت نفسه، تماما كألوان قوس قزح، جيل بإمكانه الاطلاع على كافة الآراء المتضاربة والقدرة على تقييم هذه الآراء استنادا إلى الطريقة العلمية في التفكير، جيل منفتح يثمن مبدأ الاختلاف والتعايش معه أيضا!
أخيرا، إن الاختبار الحقيقي لأية ديمقراطية لا يكمن في الاحترام الأعمى لرأي الأغلبية، بل في التسامح النبيل مع رأي الأقلية وحقها في الوجود!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
الديمقراطية واستبداد الأغلبية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق