استكمالاً للمقال السابق، سنحاول من خلال هذا المقال أن نستعرض بعض مظاهر الخلط بين المبدأ الأخلاقي والمعتقد الديني، وأن نشير إلى ما يترتب على هذا الخلط من نتائج وخيمة تهدد استقرار أي مجتمع إنساني.
من حيث المبدأ، ليست هناك مشكلة في إقامة نظام أخلاقي يستند إلى شروط معتقد ديني معين، لكن المشكلة تبرز عندما نجبر كل فرد لا ينتمي إلى المعتقد الديني السائد على الخضوع لهذا النظام الأخلاقي. لو ألقينا نظرة سريعة على كيفية تعايش المذهبين السني والشيعي جنباً إلى جنب على ضفتي الخليج (الفارسي/ العربي)، لوجدنا أن الأغلبية السنية تهضم حقوق الأقلية الشيعية في بعض دول الخليج، والأغلبية الشيعية تهضم حقوق الأقلية السنية في إيران، والسبب واحد في كلتا الحالتين، وهو أن الأغلبية تعتقد، لمجرد كونها أغلبية، أن من حقها فرض نسختها الخاصة حول الدين على الأقلية!
حسناً، لنفرض وجود مجتمع ينتمي نصف أفراده إلى طائفة دينية، بينما ينتمي النصف الآخر إلى طائفة أخرى، فما الطريقة المثلى لاختيار نظام أخلاقي على أساس ديني يحتكم إليه أفراد هذا المجتمع جميعهم؟ إذا كان كل طرف يصر على تعميم النموذج الأخلاقي الخاص به على الجميع، وإذا كان الاستشهاد بالنص الديني هو السبيل الوحيد لكل طرف في إقناع الطرف الآخر، وإذا كان كل طرف لا يعترف بالتفسير الديني للطرف الآخر، فهل من المستغرب أن تكون الحرب هي الخيار الأوحد للفصل في مثل هذه النزاعات العقائدية؟!
ليس من المستغرب أيضا أن يُفرض الحجاب، مثلاً، على المرأة مهما كانت ديانتها في دول مثل إيران والمملكة العربية السعودية، فمثل هذه الدول تخلط بين المعتقد الديني الخاص والمبدأ الأخلاقي العام، من دون أدنى اعتبار إلى حقيقة أن الآخرين ربما لا يشاطرون الأغلبية معتقداتها الدينية، أو ربما لديهم تفسير مغاير لهذه المعتقدات! كي أبين للقارىء مدى خطورة استناد النظام الأخلاقي إلى معتقد ديني، فإني أدعوه إلى تأمل المثال التالي.
لنفرض أن عائلة مسلمة تعيش في مجتمع بدائي يدين معظم أفراده بديانة تحرّم ارتداء اللباس، ولنفرض أن غالبية أفراد هذا المجتمع البدائي تفرض على الجميع أن يكونوا عراة، وحجتهم في ذلك هي أن تعاليم ديانتهم تتطلب ذلك، فما مصير العائلة المسلمة التي تعيش بينهم؟ لست أطرح هذا السؤال كي أقدّم جواباً له، إنما أريد فقط أن أشير إلى حقيقة أن البناء المنطقي لهذا المثال الافتراضي مشابه لموضوع فرض الحجاب، ووجه التشابه يكمن في الاستناد إلى المعتقد الديني الخاص لفرض نظام أخلاقي على الجميع دون استثناء. لو رفعنا غشاوة التعصب الديني عن أعيننا، لرأينا بوضوح أن حق المرأة الأجنبية في رفض ارتداء الحجاب في شوارع الرياض و طهران لا يقل عن حق العائلة المسلمة في رفض التعري وسط الغابات والأدغال!
من الطبيعي أن يتعامل شخص مع معتقده الديني وكأنه حقيقة بديهية ليست في حاجة إلى إثبات، ذلك أن فكرة الإيمان تستمد قيمتها من الاستعداد النفسي للتصديق من دون إثبات، وهو استعداد يختلف باختلاف الحالة الذهنية من شخص إلى آخر، ولكن الخطورة تكمن في محاولة الانتقال القسري بهذا الإيمان من مرحلة الاستعداد النفسي الخاص إلى مرحلة الاستعداد الاجتماعي العام. ينبغي أن ندرك أن الإيمان حالة فردية، والقانون نظام اجتماعي، وأي محاولة إلى إخضاع مواد القانون إلى شروط الإيمان ليست سوى شكل من أشكال الدكتاتورية! قد تنجح الكلمة الطيبة في إستمالة الآخرين إلى معتقدك الديني، ولكن الكلمة الطيبة في حد ذاتها لا تصلح أن تكون دليلاً على صحة معتقدك الديني. بالمثل، قد ينجح السيف في إرغام الآخرين على القبول برأيك الديني، لكن السيف في حد ذاته لا يشكل دليلاً على صحة رأيك! عندما وصل الفاشيون إلى الحكم بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وقف الأديب الإسباني «أونامونو» مخاطباً جنود الدكتاتور «فرانكو»: «ربما انتصرتم، لكنكم لن تفلحوا في إقناعنا بقوة السلاح»!
الأربعاء، 29 يوليو 2009
ربما انتصرتم...!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق