يولد المولود فيدخل في فترة حضانة تدوم سنوات طويلة، يخضع خلالها إلى عملية روتينية يسمونها "تربية"، يستقي من خلالها عددا هائلا من المعلومات عن العالم من حوله وعن مكانه ودوره في هذا العالم، معلومات تلقاها من الأسرة والمدرسة والتلفاز والمجتمع بمجمله، وكلما أثبت الطفل قدرته على الحفظ عن ظهر قلب لكل هذا الكم من المعلومات، كلما دنا خطوة إلى الأمام في اتجاه هذه المرحلة التي يسمونها "البلوغ"!
في المجتمعات البدائية، أن تكون بالغا معناه إضافة واحد إلى المجموع. بمعنى آخر، صك البلوغ هو بمثابة اعتراف المجتمع بأن هذا البالغ الجديد اجتاز مرحلة الطفولة بنجاح، فهو الآن واحد منا، يلبس كما نلبس، ويشرب كما نشرب، ويأكل كما نأكل، والأسوأ من ذلك كله، يفكر كما نفكر! المجتمع ذو التفكير البدائي يظن أن حماية مصالح الجماعة مرهون بقدرة هذه الجماعة على خلق قوالب متشابهة من البشر كأعضاء جدد يدينون بالولاء لها، ففي قاموس هذا النوع من المجتمعات، ليس هناك سلاح أكثر فتكا بمفهوم الجماعة من سلاح الفكرة الفردية الجديدة، وقمع هذه الفكرة هو الطريق الوحيد للنجاة والبقاء على قيد الحياة! عندما يطرح الفرد فكرة جديدة، يرفض المجتمع البدائي هذه الفكرة لسبب بسيط: لأن الفكرة جديدة وليست مستنسخة.
حسب قوانين الفيزياء الكلاسيكية، عندما تتمكن من معرفة موقع جسم معين وسرعته في هذا الموقع، يصبح من السهل جدا التنبؤ بمسار هذا الجسم في المستقبل، ومن هنا توصف هذه القوانين بأنها قوانين حتمية· المجتمع بدائي التفكير شبيه بهذا النوع من القوانين، ذلك أن صياغة العقول في قالب واحد تتيح عملية التنبؤ بسلوك هذا المجتمع: حاول معرفة كيف يفكر الأب وستعرف كيف سيتصرف الابن، واطّلع على موضوع خطبة الجمعة الماضية كي تعثر على السبب وراء هذا التلفاز المحطم أمام عتبة البيت!
في سورة الزخرف، الآية 23، نقرأ: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)· سبب الرفض كما نرى هو التقليد المتوارث جيلاً بعد جيل، ذلك أن فكرة الدخول إلى دين جديد، أي الفكرة الجديدة، مرفوضة لأنها لا تنتمي إلى سلسلة الأفكار المتوارثة التي تشكل قوام الوعي الجمعي· الغريب أن هذه الإستراتيجية في الرفض وجدت لها مكانا في التراث الإسلامي فيما بعد، وفي مجتمعاتنا العربية في وقتنا الحاضر، فحسب القاموس الإسلامي، الفكرة الجديدة تسمى "بدعة"، وحسب قاموس الثقافة العربية، الفكرة الجديدة مرادفة لفكرة الخروج عن العادات والتقاليد الموروثة.
كي نلتمس مدى تهافت هذه الإستراتيجية اللامنطقية في رفض كل ما هو جديد، يكفي فقط أن نلاحظ التناقض الداخلي لمفهوم "التقاليد والأعراف"· عندما يرفض مجتمع ما الفكرة الجديدة بحجة أنها تمثل خروجا على الأعراف والتقاليد المتوارثة، فإن من حقنا أن نطرح السؤال التالي: أليست تقاليد الزمن الحاضر وأعرافه هي مجرد أفكار جديدة بالنسبة للزمن الماضي؟ مصلح "العرف" أو "التقليد" يشير ضمنا إلى وجود تاريخ، أي مدة زمنية، ولولا وجود هذا التاريخ لما كان هناك عرف أو تقليد· لكن تاريخية الأعراف والتقاليد تتضمن أيضا فكرة وجود بداية، فليس هناك تاريخ من دون نقطة بداية، وهنا من الطبيعي أن نتساءل: في وقتنا الحاضر، إذا كنا نسمي هذه المنظومة من القوانين الاجتماعية والأخلاقية أعرافا وتقاليدا، فما هو الاسم الأصلي لهذه القوانين عندما تم تبنيها والعمل بها في الزمن الماضي؟ الإجابة المنطقية هي أن تلك القوانين كانت تدعى "أفكارا جديدة"، ومع مرور الزمن يتحول الجديد إلى قديم، أي إلى أعراف وتقاليد، ومن ذلك كله نصل إلى الاستنتاج التالي: لولا ولادة فكر جديد لما كان هناك عرف أو تقليد.
لعل استناد الثقافة العربية إلى هذه الحجة المتهافتة للدفاع عن أعرافها وتقاليدها يفسر مدى هشاشة خطوط الدفاع لدى هذه المجتمعات في وجه ما يسمى بـ "الغزو الثقافي"، وربما فسّر أيضا هذا التناقض العجيب في التعامل مع الجديد، إذ يبدو أن الحداثة في هذه المجتمعات تقتصر على كل ما يتعلق بالمسائل الحسية، أما العقل فهو والحداثة في خصام مبين! السيارة الجديدة، والهاتف الجديد، والقميص الجديد، والمنزل الجديد··· هذه كلها أمور مقبولة، أما الفكرة الجديدة فهنا إنما يكمن الشر كله!
ماذا عن التراث الإسلامي؟ أليس يستند هو الآخر إلى الحجة نفسها في رفضه لكل جديد أو "بدعة"؟ هذا صحيح، لكنه على الأقل يقف على أرض صلبة من الناحية المنطقية، فهو يقدم لنا افتراضين إذا قبلنا بهما فإننا عندها سنكون مرغمين بقبول الاستنتاج المنبثق عنهما: الأول هو مفهوم "آخر الأديان السماوية"، والثاني هو مفهوم "إقفال باب الاجتهاد"· إذا سلّمت بحقيقة هذين المفهومين، فليس بوسعك عندها سوى القبول بالاستنتاج المنطقي التالي: كل جديد مرفوض، وكل بدعة ضلالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق