"المثل الإغريقي يقول: الأطفال والمجانين يقولون الحقيقة"·
من كتاب "في مدح الجنون" لمؤلفه "إيراسموس دي روتردام"·
ما معنى الجنون؟ التعريف المباشر هو غياب العقل، لكن كيف يغيب من ليس له حضور مادي؟ دعنا نحاول مرة أخرى: ما معنى الجنون؟ الجنون هو مرض عقلي ناتج عن خلل في وظائف الدماغ· هذا التعريف فيه مسحة علمية، لكنه يفتقر إلى التحديد، فلا أحد يعرف على وجه الدقة ما هي الوظائف الدماغية التي تعاني من خلل في حالة "الجنون"، والدليل على ذلك هو أن أي اختصاصي في علم الدماغ لن يكون بمقدوره معرفة ما إذا كان المريض مختلا عقليا من خلال الكشف فقط على حالة الدماغ! عمليا، الحكم على إنسان بالجنون لا يأتي من خلال النظر إلى الدماغ، وإنما من خلال ملاحظة السلوك· إذا كان هذا صحيحا، فإن الجنون هو عبارة عن حالة من عدم الانسجام بين سلوك الفرد من جهة والسلوك الجمعي من جهة أخرى· يبدو أننا توصلنا إلى تعريف واسع ومبهم، فهو تعريف يشمل الكثير ولا يحتوي على شيء محدد!
مع الاعتراف بوجود عقبة في العثور على تعريف مقبول للجنون، سوف أحاول الآن أن أطرح بعض الأمثلة من التاريخ والأدب· في بداية الدعوة المحمدية، اتهم كفار قريش الرسول بالجنون، وحجتهم في ذلك هي أن الرسول كان يزعم أنه على اتصال بالوحي من السماء وأن القرآن كلام الله· هذه صورة من عدم التجانس بين سلوك الفرد والسلوك العام المقبول اجتماعيا، وبدلا من أن يحاول كفار قريش التقرب من الرسول ومحاولة فهم ما يدعو إليه، قاموا مباشرة باللجوء إلى تهمة جاهزة: الجنون! في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، يؤكد الراحل "حسين مروّه" على أن كفار قريش وساداتها ارتكبوا خطأ استراتيجيا فادحا من خلال التعامل مع الدعوة المحمدية، فبدلا من اعتماد الأسلوب البرجماتي من خلال العمل على احتواء تلك الدعوة بصورة شكلية والاستفادة من قوتها الصاعدة (كما هي الحال في صدر الدولة الأموية)، دأبت الطبقة المسيطرة آنذاك على محاربة النبي وصحبه بشتى أنواع الوسائل القمعية، والنتيجة كما يراها "حسين مروّه" هي أن المجتمع المكي قام من تلقاء نفسه بعرقلة نموه الطبيعي وتطوره الاجتماعي مدة زادت عن عقدين من الزمن!
تهمة الجنون تضمن سيادة العرف وقمع الشاذ، إنها سلاح الأغلبية في وجه الفرد، ومهما تحلى الفرد بصفات الشرف والأمانة والنبل، فإن أي سلوك فردي مغاير لسلوك الجماعة سيندرج آليا تحت خانة الجنون! لم تكن خطيئة الأمير "ميشكين"، في رواية "الأبله" لدوستويفسكي، سوى أنه كان إنسانا يتصف بالإخلاص والتواضع، ومع ذلك وقع ضحية مجتمع لا يقيم وزنا لمثل هذه الخصال! لكن لا أحد يدرك عمق هذه المأساة أكثر من "دون كيخوته"، ذلك الفارس الحالم، الشهم النبيل، الصادق الشجاع! وصفوه بالجنون طوال صولاته وجولاته، وتاب من الجنون وهو على فراش الموت! لقد أجبره مجتمع لا يرحم على التوبة من الجنون، وهي في حقيقة الأمر توبة من الفروسية والشهامة، من النبل والصدق، من العفة والطهارة! نلجأ إلى الخيال عندما يكون الواقع مريرا وسخيفا، وهنا إنما يكون الخيال ضرورة بالنسبة للفرد، وضربا من الجنون بالنسبة للمجتمع!
بعض المجتمعات لم تكتف بالتهميش المعنوي للمجنون فلجأت إلى التهميش المادي! في كتاب "تاريخ الجنون"، يؤكد المفكر الفرنسي "ميشيل فوكو" على أن عملية إقصاء الحمقى والمجانين وعزلهم عن بقية أفراد المجتمع كانت عادة سائدة في أوروبا خلال القرون الوسطى، ففي باريس، على سبيل المثال، دأبت السلطات على حصر عدد المجانين ووضعهم في سفينة تبحر بهم عبر نهر السين بعيدا عن العاصمة الفرنسية! في ظل الظروف الراهنة من المحيط إلى الخليج، أتساءل أحيانا بيني وبين نفسي: كم "سفينة حمقى" نحتاج؟ الجواب بطبيعة الحال يعتمد على من يقرر، فإذا كانت منظومة الأعراف والتقاليد والدين هي الحَكَم، فإن سفينة واحدة ستصبح كافية، لكن إذا كان العقل هو الحَكَم، فأغلب الظن أننا سنحتاج إلى أساطيل لا أول لها ولا آخر!
أنا وأنت نعرف جيدا من بيده القرار، لذا دعنا نهتف سويا: أبحري يا سفينة الحمقى!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
أبحري يا سفينة الحمقى!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق