عندما يجري الحديث بشأن المادة الثانية من الدستور الكويتي، التي تنص على أن «دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، فإن الجدل السياسي التقليدي يقود إلى خيارين: إبقاء المادة كما هي عليه، أو إضافة «ال التعريف» إلى كلمة «مصدر».
هذا الجدل السياسي لم يستنفد بطبيعة الحال جميع الخيارات، فهناك أيضا خيار حذف المادة الثانية برمتها من الدستور، وهو خيار حكيم، ولكن بما أن الخيارات الحكيمة لا تحظى عادة بشعبية كبيرة في زمن التدهور الفكري، فإن مسألة حذف المادة الثانية من الدستور ستظل مستبعدة لعقود قادمة على أقل تقدير!
سأحاول من خلال هذا المقال تقديم إجابة عن السؤال التالي: إذا استبعدنا خيار «الحذف»، فهل هناك إمكان لوجود جدل سياسي حقيقي حول المادة الثانية من الدستور؟
محور الخلاف حول المادة الثانية من الدستور يدور حول فكرة التحول من الدولة المدنية إلى الدولة الدينية، ومن هذه الفكرة بإمكاننا استنتاج القائمة التالية:
1- الوضع السياسي الراهن يعبر عن وجود دولة مدنية.
2 - هناك من يؤيد بقاء الدولة المدنية.
3 - هناك من يعارض بقاء الدولة المدنية ويطالب بالتحول إلى الدولة الدينية.
إذا كانت هذه القائمة من الاستنتاجات صحيحة، فإن الجدل السياسي حول المادة الثانية من الدستور يصبح حقيقياً، اي انه يستند إلى مسببات لها صدى على أرض الواقع، لكن في المقابل، لو استطعنا اثبات عدم صحة استنتاج واحد فقط من القائمة أعلاه، فإن هذا الجدل السياسي يمكن وصفه بأنه غير حقيقي، أي أنه لا يستند إلى مسببات لها أثر على أرض الواقع.
على ضوء ما تقدم، بإمكاننا الآن تحديد حقيقة الجدل السياسي حول المادة الثانية من الدستور عن طريق الإجابة عن السؤال التالي: هل الوضع السياسي الراهن يعبر عن وجود دولة مدنية؟
حرية التعبير وحرية الاعتقاد وحرية البحث العلمي، هي من بين أهم خصائص الدولة المدنية، لكن بعض التشريعات التي صدرت عن مجلس الأمة في السنوات الأخيرة تنتهك بشكل منظم هذه الحريات المدنية، وهذا الانتهاك يقود إلى مؤشرات خطيرة، أولاً، تقويض الدولة المدنية عن طريق تشريعات نيابية تحد من الحريات المدنية، ثانياً، انتهاك الحريات المدنية جاء استنادا إلى المادة الثانية من الدستور، ذلك أن التيار الديني يعتقد أن هذه المادة تخوّله أسلمة القوانين بكل حرية! ثالثاً، الاستناد إلى المادة الثانية من الدستور في تقويض الحريات المدنية يهدد مبدأ التوافق المنطقي الذي يرتكز عليه أي نظام ناجح، ونجاح الدستور كنظام شامل غير ممكن في هذه الحال، فالدستور الكويتي في الوقت الراهن يؤدي وظيفتين متناقضتين، فهو من جهة يعزز الحريات المدنية عن طريق المواد (29) و(30) و(35) و(36)، ومن جهة أخرى يسمح بانتهاك هذه الحريات عن طريق المادة (2) من الدستور (أو هكذا يفهم الإسلاميون هذه المادة!).
ليس هناك، إذاً، جدل حقيقي حول المادة الثانية من الدستور، فمادامت عملية «أسلمة القوانين» تسير على قدم وساق من دون أي محاولة جادة إلى إيقافها، فإن الخلاف حول فكرة التحول من الدولة المدنية إلى الدولة الدينية يصبح خلافاً عديم المعنى وليس ذا قيمة!
الآن نأتي إلى تقديم إجابة عن السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال: إذا استبعدنا خيار حذف المادة الثانية من الدستور، فهل هناك إمكان لوجود جدل سياسي حقيقي حول هذه المادة؟... الإجابة هي «نعم، لكن بشرط»!
الشريعة الإسلامية ليست سوى أحد مصادر التشريع، والاستناد إلى هذا المصدر في سن التشريعات يجب أن يلتزم بشرط عدم تعارض هذه التشريعات مع بقية مواد الدستور. إن عدم الالتزام بهذا الشرط يجعل الجدل حول المادة (2) مضيعة للوقت والجهد معاً، كما أنه يجعل دستور البلاد عرضة لجملة من التناقضات، وعندما تتراكم التناقضات في أي نظام، فإنه يفشل في وظيفته! هنا تحديداً يكمن معنى شعار «تفريغ الدستور من محتواه» الذي طالما حذّر من خطورته الحريصون على المستقبل السياسي لهذا البلد!
تعقيب
كتب الأستاذ الفاضل المستشار شفيق إمام مقالا هنا في «الجريدة» بعددها الصادر يوم الاثنين 17/9/2007، يعترض من خلاله على ما كتبته في مقال سابق حول رأيي الخاص في أن المادة (174) هي أقرب مواد الدستور إلى قلبي، وخلص الأستاذ إلى نتيجة عكسية تفيد أن هذه المادة هي أبعد ما تكون عن قلبه، فهي «مثل الطلاق... أبغض الحلال»! أحترم رأي الأستاذ الفاضل، لكن اعتراضه يتعلق بمضمون المادة (174) ووظيفتها، أما الرأي الذي طرحته فيشير فقط إلى شكل هذه المادة ودلالتها! أنا لم أدعُ إلى فكرة الترويج لتفعيل المادة (174)، إنما أردت فقط المقارنة بين أداة حكم غير مقدسة وأداة أخرى تتسم بالقدسية، وأردت أيضا الإشارة إلى النتائج المترتبة على كلتا الحالتين.
هذا الجدل السياسي لم يستنفد بطبيعة الحال جميع الخيارات، فهناك أيضا خيار حذف المادة الثانية برمتها من الدستور، وهو خيار حكيم، ولكن بما أن الخيارات الحكيمة لا تحظى عادة بشعبية كبيرة في زمن التدهور الفكري، فإن مسألة حذف المادة الثانية من الدستور ستظل مستبعدة لعقود قادمة على أقل تقدير!
سأحاول من خلال هذا المقال تقديم إجابة عن السؤال التالي: إذا استبعدنا خيار «الحذف»، فهل هناك إمكان لوجود جدل سياسي حقيقي حول المادة الثانية من الدستور؟
محور الخلاف حول المادة الثانية من الدستور يدور حول فكرة التحول من الدولة المدنية إلى الدولة الدينية، ومن هذه الفكرة بإمكاننا استنتاج القائمة التالية:
1- الوضع السياسي الراهن يعبر عن وجود دولة مدنية.
2 - هناك من يؤيد بقاء الدولة المدنية.
3 - هناك من يعارض بقاء الدولة المدنية ويطالب بالتحول إلى الدولة الدينية.
إذا كانت هذه القائمة من الاستنتاجات صحيحة، فإن الجدل السياسي حول المادة الثانية من الدستور يصبح حقيقياً، اي انه يستند إلى مسببات لها صدى على أرض الواقع، لكن في المقابل، لو استطعنا اثبات عدم صحة استنتاج واحد فقط من القائمة أعلاه، فإن هذا الجدل السياسي يمكن وصفه بأنه غير حقيقي، أي أنه لا يستند إلى مسببات لها أثر على أرض الواقع.
على ضوء ما تقدم، بإمكاننا الآن تحديد حقيقة الجدل السياسي حول المادة الثانية من الدستور عن طريق الإجابة عن السؤال التالي: هل الوضع السياسي الراهن يعبر عن وجود دولة مدنية؟
حرية التعبير وحرية الاعتقاد وحرية البحث العلمي، هي من بين أهم خصائص الدولة المدنية، لكن بعض التشريعات التي صدرت عن مجلس الأمة في السنوات الأخيرة تنتهك بشكل منظم هذه الحريات المدنية، وهذا الانتهاك يقود إلى مؤشرات خطيرة، أولاً، تقويض الدولة المدنية عن طريق تشريعات نيابية تحد من الحريات المدنية، ثانياً، انتهاك الحريات المدنية جاء استنادا إلى المادة الثانية من الدستور، ذلك أن التيار الديني يعتقد أن هذه المادة تخوّله أسلمة القوانين بكل حرية! ثالثاً، الاستناد إلى المادة الثانية من الدستور في تقويض الحريات المدنية يهدد مبدأ التوافق المنطقي الذي يرتكز عليه أي نظام ناجح، ونجاح الدستور كنظام شامل غير ممكن في هذه الحال، فالدستور الكويتي في الوقت الراهن يؤدي وظيفتين متناقضتين، فهو من جهة يعزز الحريات المدنية عن طريق المواد (29) و(30) و(35) و(36)، ومن جهة أخرى يسمح بانتهاك هذه الحريات عن طريق المادة (2) من الدستور (أو هكذا يفهم الإسلاميون هذه المادة!).
ليس هناك، إذاً، جدل حقيقي حول المادة الثانية من الدستور، فمادامت عملية «أسلمة القوانين» تسير على قدم وساق من دون أي محاولة جادة إلى إيقافها، فإن الخلاف حول فكرة التحول من الدولة المدنية إلى الدولة الدينية يصبح خلافاً عديم المعنى وليس ذا قيمة!
الآن نأتي إلى تقديم إجابة عن السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال: إذا استبعدنا خيار حذف المادة الثانية من الدستور، فهل هناك إمكان لوجود جدل سياسي حقيقي حول هذه المادة؟... الإجابة هي «نعم، لكن بشرط»!
الشريعة الإسلامية ليست سوى أحد مصادر التشريع، والاستناد إلى هذا المصدر في سن التشريعات يجب أن يلتزم بشرط عدم تعارض هذه التشريعات مع بقية مواد الدستور. إن عدم الالتزام بهذا الشرط يجعل الجدل حول المادة (2) مضيعة للوقت والجهد معاً، كما أنه يجعل دستور البلاد عرضة لجملة من التناقضات، وعندما تتراكم التناقضات في أي نظام، فإنه يفشل في وظيفته! هنا تحديداً يكمن معنى شعار «تفريغ الدستور من محتواه» الذي طالما حذّر من خطورته الحريصون على المستقبل السياسي لهذا البلد!
تعقيب
كتب الأستاذ الفاضل المستشار شفيق إمام مقالا هنا في «الجريدة» بعددها الصادر يوم الاثنين 17/9/2007، يعترض من خلاله على ما كتبته في مقال سابق حول رأيي الخاص في أن المادة (174) هي أقرب مواد الدستور إلى قلبي، وخلص الأستاذ إلى نتيجة عكسية تفيد أن هذه المادة هي أبعد ما تكون عن قلبه، فهي «مثل الطلاق... أبغض الحلال»! أحترم رأي الأستاذ الفاضل، لكن اعتراضه يتعلق بمضمون المادة (174) ووظيفتها، أما الرأي الذي طرحته فيشير فقط إلى شكل هذه المادة ودلالتها! أنا لم أدعُ إلى فكرة الترويج لتفعيل المادة (174)، إنما أردت فقط المقارنة بين أداة حكم غير مقدسة وأداة أخرى تتسم بالقدسية، وأردت أيضا الإشارة إلى النتائج المترتبة على كلتا الحالتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق