التعليم ليس سوى عملية نقل لمعلومة من طرف إلى طرف آخر، وليس من حقنا أن نجبر طالبا على تعلم معلومة لا نملك لها دليلاً منطقياً أو مادياً، لو طبقنا هذا المبدأ البسيط لتم اختزال مناهجنا الدراسية إلى العُشر أو أقل من ذلك بكثير، وهنا تحديداً تكمن كارثة التعليم.
قبل أن نفكر في إصلاح التعليم، علينا أولاً أن نحدد فلسفة للتعليم المراد إصلاحه، وهي فلسفة تتطلب منا الإجابة عن الأسئلة التالية: ما الركائز الأساسية لكل تعليم منظم؟ ما طبيعة المعلومات التي يجب أن يحتوي عليها كل منهج دراسي، وما المعلومات التي تجب إزالتها؟ ما دور الدين والعادات والتقاليد في رسم صورة التعليم؟ أين يقع الخط الفاصل بين دور المسجد والبيت من جهة، ودور المدرسة من جهة أخرى؟ هل من الضروري أن تتأثر عملية إصلاح التعليم بهوية من يجلس على كرسي وزارة التعليم؟ وأهم من كل ما سبق، ما المعيار الذي نحدد من خلاله جودة التعليم؟
أسطوانة إصلاح التعليم تصدح عادة بعد ظهور النتائج النهائية في بداية شهر الصيف، وكأن تدني مستوى نسب النجاح هو المظهر الوحيد لخراب التعليم. حسنا، ماذا لو شهدنا في العام المقبل نسبة نجاح مرتفعة تفوق كل التصورات، هل يعني ذلك أن خطة التعليم كسبت الرهان ونجحت في إصلاح التعليم؟ ما قيمة أن يحصل طالب على نسبة 95 في المئة ويؤمن في الوقت ذاته بأمور خارج نطاق العقل والمنطق؟ لست بالمتجني ولست بالحالم، فقد سنحت لي الفرصة فعلاً في مقابلة شاب كويتي بهذه المواصفات، ولم أملك سوى أن أجيبه بحسرة: إذا كنت تصدّق بوجود صخور معلقة في الهواء، فإن منهج الفيزياء الذي درسته كان يجب أن يحتوي على المقولة التالية: «قوانين الجاذبية لنيوتن صحيحة، باستثناء صخور ذلك الشاب»!
في الغرب، نظريتا الكم والنسبية، هما اللتان تحددان قصور قوانين الجاذبية، أما هنا فالقصور يحدده ما تعلمناه وورثناه في القصص التراثية!
ماذا لو أجرينا استبياناً بين طلبة المدارس نطرح من خلاله هذين السؤالين: هل تستطيع أن تذكر ثلاثة شعراء جاهليين؟ وهل تستطيع أن تذكر ثلاثة علماء طبيعة معاصرين؟ من السهل التنبؤ بأن مصير إجابة السؤال الأول النجاح ومصير إجابة السؤال الثاني الإخفاق، لكن لماذا؟ لأن نسبة الجرعة التراثية في مناهجنا الدراسية أكبر بكثير من نسبة الجرعة الحداثية! بعث طالب كويتي بجزء من رسالته إلى أستاذه البريطاني المشرف على هذه الرسالة، ثم ذهب هذا الطالب إلى أستاذه يستفسر منه عن جودة ما كتب، فسأله الأستاذ مستغرباً: «لماذا تعتمد كثيراً على مراجع قديمة في بحثك؟» فرد الطالب: «كنت أعتقد أنه كلما كان الكتاب قديماً زادت مصداقيته!»، فضحك الأستاذ وأجاب بأسلوب ساخر لا يجيده إلا الإنكليز: «ربما فضلتم القديم على الحديث في الكويت، لكن عليك أن تعلم أن الصورة مقلوبه هنا في بريطانيا»!
لدى وزارة التربية والتعليم نصف مليار دينار لإصلاح التعليم، لكن كم من هذه الدنانير ستصرف على تدريب الطلاب والطالبات على مهارات التفكير النقدي؟ أم أن مادة المنطق ستظل يتيمة كما كانت دوماً؟ لدينا مئات الألوف من الطلبة والطالبات ممن تخرجوا بنسب جيدة على مر السنين، لكن كم منهم يعرف الفرق بين الاستدلال والاستنتاج؟ كم منهم يعرف مقومات الحجة المنطقية؟ إذا لم نعرف الفرق بين الحجة المنطقية والحجة غير المنطقية، فكيف نستطيع تقييم الآراء التي نتبناها؟ كيف لا يخدعنا خطيب سياسي أو حتى إعلان تجاري؟ بل كيف نواجه مشاكل الحياة وتعقيداتها ونحن نفتقر إلى أبسط أدوات التفكير السليم؟ لاخير في تعليم لا يقوم على العقل كأساس لكل شيء، فالتعليم ليس سوى عملية نقل لمعلومة من طرف إلى طرف آخر، وليس من حقنا أن نجبر طالبا على تعلم معلومة لا نملك لها دليلاً منطقياً أو مادياً. لو طبقنا هذا المبدأ البسيط لتم اختزال مناهجنا الدراسية إلى العُشر أو أقل من ذلك بكثير، وهنا تحديداً تكمن كارثة التعليم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق