لست أدري ما الذي يجعل نشاطاً ذهنياً مثل «القراءة» محبباً لدى بعض الناس، ومكروهاً عند بعضهم الآخر! قد يعود السبب في ذلك إلى البيئة، أو إلى الطبيعة، أو ربما إلى كليهما، ولكن الشيء المؤكد هو صعوبة إقناع أعداء الكتاب بأهمية القراءة، بينما الأمر الأصعب هو محاولة إقناع أنصار الكتاب بأهمية التشكيك في ما قرؤوا! أريد من خلال هذا المقال أن أقدم إلى القارئ بعض الخواطر والملاحظات الشخصية حول موضوع القراءة، أي مجرد قراءة في موضوع القراءة.
هناك عامل مشترك بين تناول الطعام وقراءة كتاب، فكلاهما تنطبق عليه صفة «النهامة»، ومعنى النهامة، حسب ما جاء في «لسان العرب»، هو إفراط الشهوة في الطعام، ورجل نهِم أي لا يشبع، وهي صفة ترتبط أيضا بنشاط القراءة، فنحن نقول مثلاًً «قارئ نهم»، أي لا يشبع من القراءة! إلى جانب اللغة، هناك أيضاً ترابط بين تناول الطعام والقراءة على مستوى السلوك، ذلك أن الانقضاض على وجبة طعام لذيذة يشبه الانفراد بكتاب ممتع، ولعل الابتسامة الغريزية التي ترتسم عادة على وجه الإنسان الجائع قبل أول قضمة تشبه إلى حد كبير ابتسامة المرح قبل ملامسة الغلاف! لكن ينبغي ألاّ نبالغ في البحث عن أوجه للشبه بين نشاط غريزي بدائي مثل تناول الطعام ونشاط ذهني حضاري مثل القراءة، فإذا كان تناول الطعام يبقينا على قيد الحياة، فإن القراءة تضفي معنىً لهذه الحياة.
هناك قاعدة تقول إن الكتاب الذي لا تقنعك مقدمته بأن تقرأه لا يستحق القراءة، ولكن هذا لا يعني عدم وجود مقدمات رائعة لكتب رديئة، أو عناوين جذابة لمقالات سخيفة! هذه الحقيقة تشير إلى أن القراءة لا تضمن المتعة دائما، فهي قادرة كذلك على ضمان خيبة الأمل في أحيان كثيرة، فمن منّا لم يشعر بخيبة أمل كبيرة عند قراءة كتاب تأمّلنا منه الكثير ولم نجد سوى القليل!
هناك أنواع من الكتب لا ينبغي قراءتها في أماكن عامة، ليس بسبب مضمونها، بل بسبب مفعولها، فهي قادرة على أن تسرق الدموع من مآقيها، وأن تنتزع الضحكات المدوية من أفواهنا، وهذه كلها مشاعر خاصة تتطلب جوّاً من الهدوء والسكينة، وليست القراءة على أي حال سوى نشاط غير اجتماعي له طقوس تسلتزم الخلوة مع النفس في أحيان كثيرة.
أخيرا، سأختم هذا المقال ببعض المواقف الشخصية التي لا تخلو من طرافة، وتدور جميعها حول موضوع القراءة: الموقف الأول حدث في عام 1993 في أحد المعاهد الدراسية، فبينما كنت جالسا وفي يدي كتاب حمل عنوان «المثقف والسلطة»، جاء زميل عربي ضخم الجثة، فيه شراهة عند الأكل وبخل عند الدفع، ثم خطف الكتاب من بين يدي وشرع يقرأ عنوانه بصوت مرتفع: «المثقف والسَّلَطة»- بفتح السين واللام، ثم راح يسألني مستغرباً: «ما علاقة الثقافة بالمقبّلات؟!»
الموقف الثاني حدث منذ عهد قريب في مكتبة إحدى الجامعات الأجنبية، ففي مساء أحد الأيام، وبينما كنت أقرأ عناوين بعض الكتب التي أنوي استعارتها، رن الجرس إيذاناً بموعد إغلاق المكتبة، ثم اقتربت مني سيّدة تعمل ضمن طاقم المكتبة، وقالت لي ممازحة: «يبدو أنك لا تعرف أي الكتب تختار، وأراهن أن لديك رغبة شديدة في اقتنائها كلها، لكن لا تخف، أتفهم شعورك تماماً، فلدي شعور مماثل عندما أمارس عادة التسوق في المحال التجارية!».
الموقف الأخير حدث في الجامعة نفسها، فبعد أن استعرت كتابا بعنوان «المنطق والمنهج العلمي»، ذهبت لأقرأه في مقهى الجامعة، وقد بلغ إعجابي بالكتاب إلى درجة أني قمت لا إراديا بطبع قبلة على غلافه بعد قراءة الفصل الأول، وأعتقد أن عادة تقبيل أغلفة الكتب هي من بين بقايا ذكريات الطفولة في أروقة المساجد! عندما هممت بالخروج واللحاق بمحاضرتي، استوقفني شاب أجنبي مستسمحاً مني أن يطرح عليّ سؤالاً لمجرد الفضول، وبعد أن أذنت له قال: «في العام الماضي كنت في مصر، وقد لاحظت أن الناس هناك يقبّلون القرآن بعد الفراغ من قراءته، فهل كنت تقرأ القرآن؟!».
هناك عامل مشترك بين تناول الطعام وقراءة كتاب، فكلاهما تنطبق عليه صفة «النهامة»، ومعنى النهامة، حسب ما جاء في «لسان العرب»، هو إفراط الشهوة في الطعام، ورجل نهِم أي لا يشبع، وهي صفة ترتبط أيضا بنشاط القراءة، فنحن نقول مثلاًً «قارئ نهم»، أي لا يشبع من القراءة! إلى جانب اللغة، هناك أيضاً ترابط بين تناول الطعام والقراءة على مستوى السلوك، ذلك أن الانقضاض على وجبة طعام لذيذة يشبه الانفراد بكتاب ممتع، ولعل الابتسامة الغريزية التي ترتسم عادة على وجه الإنسان الجائع قبل أول قضمة تشبه إلى حد كبير ابتسامة المرح قبل ملامسة الغلاف! لكن ينبغي ألاّ نبالغ في البحث عن أوجه للشبه بين نشاط غريزي بدائي مثل تناول الطعام ونشاط ذهني حضاري مثل القراءة، فإذا كان تناول الطعام يبقينا على قيد الحياة، فإن القراءة تضفي معنىً لهذه الحياة.
هناك قاعدة تقول إن الكتاب الذي لا تقنعك مقدمته بأن تقرأه لا يستحق القراءة، ولكن هذا لا يعني عدم وجود مقدمات رائعة لكتب رديئة، أو عناوين جذابة لمقالات سخيفة! هذه الحقيقة تشير إلى أن القراءة لا تضمن المتعة دائما، فهي قادرة كذلك على ضمان خيبة الأمل في أحيان كثيرة، فمن منّا لم يشعر بخيبة أمل كبيرة عند قراءة كتاب تأمّلنا منه الكثير ولم نجد سوى القليل!
هناك أنواع من الكتب لا ينبغي قراءتها في أماكن عامة، ليس بسبب مضمونها، بل بسبب مفعولها، فهي قادرة على أن تسرق الدموع من مآقيها، وأن تنتزع الضحكات المدوية من أفواهنا، وهذه كلها مشاعر خاصة تتطلب جوّاً من الهدوء والسكينة، وليست القراءة على أي حال سوى نشاط غير اجتماعي له طقوس تسلتزم الخلوة مع النفس في أحيان كثيرة.
أخيرا، سأختم هذا المقال ببعض المواقف الشخصية التي لا تخلو من طرافة، وتدور جميعها حول موضوع القراءة: الموقف الأول حدث في عام 1993 في أحد المعاهد الدراسية، فبينما كنت جالسا وفي يدي كتاب حمل عنوان «المثقف والسلطة»، جاء زميل عربي ضخم الجثة، فيه شراهة عند الأكل وبخل عند الدفع، ثم خطف الكتاب من بين يدي وشرع يقرأ عنوانه بصوت مرتفع: «المثقف والسَّلَطة»- بفتح السين واللام، ثم راح يسألني مستغرباً: «ما علاقة الثقافة بالمقبّلات؟!»
الموقف الثاني حدث منذ عهد قريب في مكتبة إحدى الجامعات الأجنبية، ففي مساء أحد الأيام، وبينما كنت أقرأ عناوين بعض الكتب التي أنوي استعارتها، رن الجرس إيذاناً بموعد إغلاق المكتبة، ثم اقتربت مني سيّدة تعمل ضمن طاقم المكتبة، وقالت لي ممازحة: «يبدو أنك لا تعرف أي الكتب تختار، وأراهن أن لديك رغبة شديدة في اقتنائها كلها، لكن لا تخف، أتفهم شعورك تماماً، فلدي شعور مماثل عندما أمارس عادة التسوق في المحال التجارية!».
الموقف الأخير حدث في الجامعة نفسها، فبعد أن استعرت كتابا بعنوان «المنطق والمنهج العلمي»، ذهبت لأقرأه في مقهى الجامعة، وقد بلغ إعجابي بالكتاب إلى درجة أني قمت لا إراديا بطبع قبلة على غلافه بعد قراءة الفصل الأول، وأعتقد أن عادة تقبيل أغلفة الكتب هي من بين بقايا ذكريات الطفولة في أروقة المساجد! عندما هممت بالخروج واللحاق بمحاضرتي، استوقفني شاب أجنبي مستسمحاً مني أن يطرح عليّ سؤالاً لمجرد الفضول، وبعد أن أذنت له قال: «في العام الماضي كنت في مصر، وقد لاحظت أن الناس هناك يقبّلون القرآن بعد الفراغ من قراءته، فهل كنت تقرأ القرآن؟!».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق