'الدوغما' هي الإيمان المطلق بصحة رأي معين، بينما التعصّب هو الدفاع المستميت عن صحة رأي بأي ثمن. هناك، إذن، اختلاف طفيف بين مفهومي 'الدوغما' والتعصب، فالأول يعبّر عن موقف، والثاني يعبّر عن ممارسة. إذا قبلنا بصحة هذين التعريفين، فإن بوسعنا أن نصل إلى الاستنتاج التالي: 'الدوغما' شرط أساسي لوجود التعصب، فمن دون 'دوغما' لا يوجد تعصب، ذلك أن من غير المعقول أن تدافع بشراسة عن رأي لا تؤمن بصحته! إذا كان هذا صحيحاً، فإن مكافحة التعصب في أي نظام تعليمي لابد أن تعتمد على سياسة تعليمية قائمة على نبذ التفكير 'الدوغماتي'. بمعنى آخر أكثر تحديداً، إذا أردنا تطهير نفوس الطلاب من التعصب بجميع أشكاله، فلابد أولا من تطهير عقولهم من الميل اللانقدي إلى الإيمان المطلق بصحة آراء معينة، ومن ضمنها تلك الآراء التي يعتبرها البعض آراء مقدسة.
لو نظرنا إلى سياسة التعليم على أرض الواقع، لوجدنا أنها سياسة متناقضة، فهي من جهة تكافح التفكير 'الدوغماتي' والمتعصب من خلال مناهج العلوم الطبيعية، لكنها تعزز، من جهة أخرى، 'الدوغما' والتعصب من خلال مناهج التربية الدينية والوطنية. كي نقف على حقيقة هذه السياسة المتناقضة لنظامنا التعليمي، دعنا نر ما هو أثر تدريس هذه المناهج الدراسية المختلفة على عقول الطلاب.
في مناهج العلوم الطبيعية، نقدّم إلى الطلّاب حقائق علمية كثيرة، لكننا لا نطالبهم بالقبول المسبق بصحة هذه الحقائق، بل نلفت انتباههم إلى وجود أدلة عقلية أو مادية تدعم صحة كل حقيقة علمية، ثم نتيح لهم التحقق من ذلك بواسطة إجراء التجارب العلمية. هنا يبرز الدور الحيوي لمفهوم 'التجربة العلمية' في مكافحة التفكير 'الدوغماتي' والمتعصب، فالتجربة ليس لها قيمة إذا لم يكن لديك استعداد في قبول نتائجها، مهما جاءت متعارضة مع ما تؤمن به. بمعنى آخر، نستعين بإجراء التجارب العلمية لأننا نتوقع أن تقودنا هذه التجارب إلى نتيجة معينة، لكن إذا لم يكن لدينا استعداد لتغيير قناعتنا مهما كانت نتائج التجربة العلمية، فإن فكرة إجراء التجربة تفقد أي معنى لها! إن أبرز ما يميّز المناهج العلمية هو أنها تربي في نفوس الطلاب فضيلة الشك وعدم القبول بصحة أي رأي من دون وجود دليل عقلي أو مادي، وهذا بالضبط ما يفتقر إليه التفكير 'الدوغماتي' والمتعصّب!
لو انتقلنا الآن إلى مناهج التربية الدينية، فسنجد أن الصورة معكوسة بشكل صارخ، فنحن نقدم إلى الطلاب مجموعة من 'الحقائق' غير العلمية، ثم نتوقع منهم القبول المسبق بصحتها، والجدير بالذكر أن بعض هذه الحقائق مستوفٍ لشروط إجراء التجرية العلمية، وبالرغم من ذلك لا يتم إخضاعها للتجربة للتحقق من مدى صحتها، فهي تُقدم بوصفها حقائق ثابتة غير قابلة للشك! ما يزيد الطين بلّة هو تشويه مفهوم 'الدليل العلمي'، فمعنى هذا المفهوم في هذه المناهج لا يشير إلى علاقة رياضية أو تجربة مخبرية، بل إلى نصوص دينية! لو سألت طالباً عن مدى صحة 'حقيقة علمية' وردت في نص ديني، فأغلب الظن أنه سينظر إليك باستغراب وربما اعتقد أنك أحمق، لكن ليس من العدل أن نلوم هذا الطالب، فهذا النوع من المناهج جعله يعتقد أن ورود هذه الحقيقة العلمية في نص ديني يكفي لإثبات صحتها!
الدين يعبّر عن حاجة روحية يراها البعض ضرورية، لكنه ليس مصدراً للمعرفة العلمية، لذا لست أدعو إلى إلغاء المناهج الدينية، بل إلى إعادة النظر في طريقة تدريس مثل هذه المناهج. هناك، مع الأسف، حرص شديد على تلقين االطالب كيف يجيب عن أي سؤال، لكن سيكون من المفيد لنا جميعا أن ندفعه إلى أن يطرح على نفسه سؤالاً واحدا فقط: ماذا لو كنتُ مخطئاً؟ فهذا هو السؤال الغائب عن عقل كل إنسان متعصب!
الأربعاء، 5 أغسطس 2009
ماذا لو كنتُ مخطئاً؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق