تعريف أولي: العلم هو بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة.
لعل القارئ لاحظ أن هذا التعريف واسع جداً، فالدين أيضا بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة. لنأخذ، على سبيل المثال، ظاهرة كسوف الشمس، فلو طلبت من عالم في مجال الفلك أن يضع تفسيراً لهذه الظاهرة الطبيعية، فأغلب الظن أنه سيشير إلى تصادف وجود القمر على خط مستقيم بين الشمس والأرض، وهذا التفسير العلمي نتيجة منطقية للقوانين الرياضية التي تحكم حركة الأجرام السماوية. بالمثل، لو سألت رجل دين عن هذه الظاهرة الطبيعية، فلعله يلجأ إلى تفسير غائي من خلال القول إن سبب الكسوف يعود إلى رغبة الخالق في تخويف عباده وحثهم على الاستغفار والتكفير عن ذنوبهم، وهذا التفسير الديني نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
نحن نرى، إذن، أن التعريف أخفق في توضيح الفرق بين العلم والدين، فهو تعريف يشمل الاثنين معاً، لكن في سياق التحليل السابق، كان لابد لنا من الحديث عن التفسير الديني والتفسير العلمي، لذا بدلاً من السؤال عن الفرق بين العلم والدين؟ دعنا نُعِدْ صياغة السؤال على النحو التالي: ما هو الفرق بين التفسير العلمي والتفسير الديني؟
لو عدنا إلى المثال السابق حول ظاهرة الكسوف، لوجدنا أن عالم الفلك سيدّعي أن هذه الظاهرة دليل على صحة تفسيره العلمي، بينما يؤكد رجل الدين أنها دليل على صحة تفسيره الديني، لذا لن يكون بوسعنا معرفة الفرق بين الاثنين من خلال الاعتماد على ظاهرة الكسوف بعد وقوعها، لكن ماذا عن ظاهرة الكسوف قبل وقوعها؟ بمعنى آخر، ماذا لو فحصنا قدرة كل تفسير على حدة، على التنبؤ بموعد الكسوف القادم؟ القدرة على التنبؤ هي أحد أهم الأدلة على صحة أي نظرية، لذا فسنحاول الآن إخضاع كِلا التفسيرين، العلمي والديني، لاختبار القدرة على تنبؤ موعد الكسوف القادم.
لنفترض أن عالم الفلك يزعم أن حساباته تشير إلى أن موعد الكسوف القادم سيكون في الساعة الثالثة ظهراً من يوم السبت القادم، ثم يأتي الموعد المحدد من دون أن نلاحظ أي كسوف للشمس! النزاهة العلمية ستجبر عالم الفلك على الاعتراف بخطأ حساباته الفلكية، وربما أيضا خطأ النظرية العلمية برمتها! لكن ماذا عن رجل الدين؟ إذا وقع الكسوف، فسيأتي الجواب على أنها مشيئة الخالق، وإذا لم يقع الكسوف، فسيأتي الجواب أيضا على أنها مشيئة الخالق، لكن لاحظ أن رجل الدين منسجم تماماً مع نفسه، فكلا التفسيرين نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
إذن، الفرق بين التفسير العلمي والتفسير غير العلمي يكمن في حقيقة أن الأول قابل للتزييف، بينما الثاني غير قابل للتزييف إطلاقاً! هنا نأتي إلى المعيار الذي وضعه الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» في كتابه الشهير «منطق الاكتشاف العلمي» (الجزء الأول، الفصل السادس)، وهو معيار نستطيع بواسطته التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية، فالنظرية العلمية تسمح لنا باختبار مدى صحتها عن طريق المخاطرة بتقديم مجموعة من التنبؤات لما سيحدث مستقبلاً، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استعانة العالم الإنكليزي «إدموند هالي» بقوانين «نيوتن» للتنبؤ بموعد ظهور أحد المُذنّبات، إذ أكد أن الموعد سيكون في أواخر عام 1758، وقد ظهر المذنب فعلاً في الخامس والعشرين من ديسمبر من عام 1758، والمُذنّب يعرف اليوم باسم «مذنب هالي» تخليداً لذكرى ذلك العالم الإنكليزي!
ينبغي التمييز هنا بين الرجم بالغيب divination والتنبؤ العلمي scientific prediction، فالأول حصيلة تراث من الخرافة، أما الثاني فثمرة نظام رياضي محكم. أهمية مفهوم التنبؤ العلمي تكمن في وظيفته كمعيار نستطيع من خلاله تحديد هوية النظرية ومدى صحتها، فالنظرية التي لا تستطيع تقديم تنبؤات علمية قابلة للاختبار لا تنتمي إلى ميدان العلم، بل إلى ميدان الفلسفة. لاحظ أن النظرية الخطأ ليست شراً مطلقاً، فهي على الأقل تمكنت من إتاحة الفرصة لنا لاختبارها، وهذه صفة إيجابية لا تتوافر في النظريات كلها التي تقع خارج نطاق العلم!
إن السبب الذي دفع «كارل بوبر» إلى تأليف كتابه حول منطق الاكتشاف العلمي يكمن في حقيقة انبهاره من نجاح نظريتيْ النسبية العامة والنسبية الخاصة، إذ قدّم «آينشتاين» مجموعة من التنبؤات العلمية القابلة للاختبار مثل انحراف الضوء بجوار الأجرام السماوية الضخمة مثل الشمس، وقد تمكن العالم البريطاني «إدنغتون» من إثبات صحة تنبؤ «آينشتاين»! لقد اتخذ «بوبر» من نظريتيْ «آينشتاين» نموذجاً لما ينبغي أن تتصف به أي نظرية علمية، وهذا ما يفسر هجومه المشروع على نظريات أخرى تدّعي صفة العلمية، مثل نظريات «فرويد» في علم النفس، أو نظرية «ماركس» في علم التاريخ، وقد نتطرق إلى هذه النقطة في مقال قادم.