ما حقيقة الاتفاقية التي أبرمها الشيخ مبارك الصباح مع البريطانيين؟ وما أهداف تلك الاتفاقية؟ وما ظروف نشأتها؟ ولماذا ظلت الاتفاقية طي الكتمان لسنوات طويلة؟ وما أثر الطريقة التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم في تحديد شكل الاتفاقية؟ وهل كان لبريطانيا دور في عملية الاغتيال الشهيرة؟ هذه أسئلة دارت في ذهني بينما كنت على وشك الدخول إلى مبنى 'الأرشيف الوطني' في أطراف العاصمة البريطانية، وبعد الاطلاع على بعض الوثائق البريطانية حول هذا الموضوع، سأحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة.
إن أول ما يثير الانتباه حول هذه الاتفاقية هو هذا التباين في تسميتها، فنحن ككويتيين نشترك جميعاً في وصفها بـ'معاهدة الحماية البريطانية'، ولكن من يطّلع على الوثائق البريطانية سيجد أن الاتفاقية تسمى Exclusive agreement، أي 'الاتفاق الحصري'، ومن الواضح أن التسمية البريطانية هي الأدق والأصح أيضاً، ذلك أن نص الاتفاقية لم يتطرق إطلاقاً إلى فكرة حماية الكويت، ولعلّي لا أبالغ إن قلت إنها من أغرب الاتفاقيات بين طرفين، فهي ملزمة لطرف واحد فقط، بينما لا يتحمّل الطرف الآخر أي نوع من الالتزام أو المسؤولية!
تم توقيع الاتفاقية بين الشيخ مبارك الصباح والكابتن 'م. جي ميد' في العاشر من رمضان من عام 1316 للهجرة، الموافق يوم الثالث والعشرين من يناير من عام 1899 للميلاد، ونصّت على ما يلي:
'يتعهّد الشيخ مبارك بن الشيخ صباح، بكامل إرادته الذاتية ورغبته الشخصية، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بالالتزام في عدم السماح لأي ممثل عن أي سلطة أو حكومة خارجية بدخول الكويت، أو الإقامة ضمن حدودها، من دون إذن مسبق من طرف الحكومة البريطانية، كما يتعهد الشيخ مبارك أيضاً، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بعدم التنازل عن أي جزء من أراضيه لأي سلطة أو حكومة خارجية'.
(ملاحظة: حاولت قدر الإمكان الالتزام بالنص الحرفي للاتفاقية أثناء ترجمتي للنسخة الإنكليزية).
بعد توقيع 'الاتفاقية'، التي لم تكن في واقع الأمر سوى تعهّد من طرف واحد فقط، استجاب المقيم البريطاني في الخليج إلى إلحاح الشيخ مبارك الصباح على تقديم ضمانات بريطانية لحماية الكويت وممتلكات الأسرة الحاكمة من أراض زراعية في منطقة 'الفاو'، وهي استجابة جاءت على شكل رسالة مشروطة بالمحافظة على سرّية 'الاتفاق الحصري' الذي تم توقيعه سابقا!
السبب وراء الحرص البريطاني على سرية 'الاتفاق الحصري' يكمن في عدم رغبة بريطانيا في إثارة مشكلة دبلوماسية مع حكومة 'إسطنبول' من جانب، ومع قوى أجنبية لها أطماع في منطقة الخليج مثل روسيا وألمانيا من جانب آخر، لكن التردد الذي أبدته بريطانيا في تقديم التزام خطي بحماية الكويت يحتاج إلى تفسير، فمن المعروف أن البريطانيين سبق أن حاولوا إقناع الشيخ عبدالله الصباح (عبدالله الثاني) في توقيع معاهدة حماية مع بريطانيا، ولكن ولاء الشيخ عبدالله لحكومة 'إسطنبول' جعله يرفض توقيع أي معاهدة من هذا القبيل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتساءل: لو تمت معاهدة الحماية في عهد الشيخ عبدالله الصباح، فهل ستأتي بالشكل الذي جاءت به أثناء فترة حكم الشيخ مبارك؟
من الواضح أن البريطانيين استفادوا من الرغبة الملحة التي أبداها الشيخ مبارك في توقيع اتفاقية حماية مع بريطانيا في أسرع وقت ممكن، فبعد هروب السيد يوسف الإبراهيم وأبناء الأخوين المقتولين محمد وجراح إلى العراق، وبعد مطالبة هؤلاء الحكومة التركية بالتدخل لتصحيح الوضع في الكويت، لجأ الشيخ مبارك إلى بريطانيا للمحافظة على الحكم، وقد استثمر البريطانيون نقطة الضعف هذه لمصلحتهم عن طريق توقيع اتفاقية غير ملزمة للطرف البريطاني، وبالتالي عدم الوقوع في حرج مع القوى الاستعمارية الأخرى في حال تم الكشف عن الاتفاق مع حاكم الكويت.
الأمر المؤكد هو أن بريطانيا كانت مصممة على حماية مصالحها في الكويت حتى لو تطلّب الأمر تدخلاً عسكرياً، بل حتى لو لم تكن هناك معاهدة حماية، ولكن الظروف التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم ساهمت في بسط الهيمنة البريطانية على الكويت من دون مقابل! هذه النقطة تدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان لبريطانيا دور في عملية الانقلاب على الحكم في الكويت؟ الحكومة البريطانية نفت مسؤوليتها عن عملية الانقلاب، ولكن هناك وثائق صادرة عن السفارة البريطانية في 'إسطنبول' تفيد بأنه قبل عملية الانقلاب، قضى الشيخ مبارك شهراً كاملاً في مدينة 'بوشهر' في ضيافة المقيم البريطاني في الخليج الكابتن 'ف.إي.ويلسون'!
أخيراً، وبالنظر إلى 'الاتفاق الحصري' الذي ألزم الكويت بعدم التنازل عن أي شبر من أراضيها لأي سلطة خارجية، لعل من سخرية الأقدار أن يكون الطرف البريطاني تحديدا هو المسؤول عن التفريط بهذا الالتزام، فأثناء توقيع معاهدة 'العقير' التي تمت في عام 1922 بغرض ترسيم الحدود بين الكويت والعراق والممكلة العربية السعودية، لم يتورع 'السير بيرسي كوكس'، الذي كان ممثلاً عن الكويت في إدارة شؤونها الخارجية، عن التضحية بمساحات شاسعة من الأراضي الكويتية للأطراف المتنازعة، وقد ذكر 'ديكسون' تفاصيل هذه المعاهدة في كتابه 'الكويت وجيرانها'. لم أقرأ كتاب 'ديكسون' في نسخته العربية، لكني على يقين أن كل كويتي قرأ الكتاب في طبعته الإنكليزية، خصوصا الصفحة 279، لابد أنه شعر، تماماً مثلما شعرت، بمزيج بغيض من الظلم والخزي!