جذور العلاقة التاريخية بين العلم والدين تمتد إلى فجر الحضارات القديمة، فالعلم خرج من رحم الدين، ومن المعروف أن الحضارات القديمة، مثل الحضارتين البابلية والمصرية، استعانت بقوانين الحساب والهندسة في مجال علم الفلك، ولكن بالرغم من لجوء الأقدمين إلى العلم في وصفهم لظواهر الطبيعة، فإنهم احتفظوا بالتفسير الديني لتلك الظواهر، فالآلهة كانت دوماً تقدم إجابات جاهزة عن طريق الكهنة ورجال الدين، وأما العلم فلم يكن سوى أداة في خدمة الدين، فالعمليات الحسابية كانت تساعد، مثلاً، على تحديد مواعيد الطقوس الدينية المرتبطة بمواسم الحرث والحصاد.
لكن مع بزوغ نجم الحضارة الإغريقية، وفي القرن السادس قبل الميلاد تحديداً، ظهرت على السطح ملامح أول انفصال حقيقي بين العلم والدين، وذلك على أيدي مجموعة من الفلاسفة المنتمين إلى مدينة Miletus الإغريقية (وهي تقع الآن ضمن حدود تركيا). لم يلجأ أولئك الفلاسفة إلى الآلهة في محاولة إيجاد تفسير لظواهر الطبيعة، بل اعتمدوا بدلاً من ذلك على قوى الطبيعة في تفسيرهم لتلك الظواهر. مثلا، 'طاليس' لاحظ تحوّل الماء من الحالة الصلبة، مروراً بالحالة السائلة، إلى الحالة الغازية، وقادته تلك الملاحظة إلى القول إن جميع الظواهر الطبيعة يرجع أصلها إلى مادة واحدة، وهي الماء! في المقابل، 'أنكساغوراس' تبنّى تفسيراً كيميائياً، حيث رأى أن أصل جميع المواد يعود إلى أربعة عناصر: الماء، والهواء، والتراب، والنار.
في فترة القرون الوسطى، كانت هناك محاولات دؤوبة إلى إيجاد توافق بين الإيمان والعقل، وأبرز مَن سلكوا هذا الطريق هما 'ابن رشد' و'سان توماس أكويناس'، فكلاهما كان يرى أن الدين والعلم يكمّل أحدهما الآخر ولا تناقض بينهما. هذا الرأي استند في المقام الأول إلى تعاليم 'أرسطو'، الذي لم يكن أساساً يؤمن بوجود إله، لكنه كان يرى أن هناك أربعة أسباب لأي ظاهرة طبيعية، أحدها هو ما يعرف بالسبب 'الغائي'، أي أن لكل عملية طبيعية غاية أو هدفا نهائيا تصبو إليه، فالقلب، مثلاً، غايته ضخ الدم في أنحاء الجسم، والأذن غايتها سماع الأصوات، إلى آخره! إذا كانت لكل عملية بيولوجية أو ظاهرة طبيعية غاية خاصة بها، فإن من الطبيعي افتراض أن الكون بمجمله له غاية أيضاً، وإذا كان للكون غاية، فلابد من وجود خالق يحدد طبيعة هذه الغاية. هنا تحديداً تكمن استفادة 'أكويناس' من تعاليم 'أرسطو' في محاولة التوفيق بين الدين المسيحي والعلم.
مع بدايات عصر النهضة وظهور ثورات علمية متتالية على أيدي 'كوبرنيكوس' و'كبلر' و'غاليليو' و'نيوتن'، برزت الحاجة إلى استبدال المنظور الأرسطي للكون بمنظور جديد، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى التخلي عن التفكير الغائي في فهم ظواهر الطبيعة، حيث برز على السطح رأي يقول: وظيفة العلم تنحصر في تفسير ظواهر الطبيعة، وليس من اختصاص العلم أن يحدد هدف الرب من خلقه للكون. إقصاء التفكير الغائي عن المنهج العلمي كان بمنزلة مقدمة لانفصال جديد بين الدين والعلم، لكن ينبغي التأكيد هنا أن هذا الانفصال لم يكن ينطوي على رفض للدين، فالعلماء الذين أشرت إليهم منذ قليل كانوا جميعاً مخلصين في إيمانهم بوجود خالق، على سبيل المثال، 'نيوتن' كتب حول الدين المسيحي أكثر مما كتب في مجال الفيزياء، و'ديكارت' بنى فلسفته على فكرة وجود خالق (انظر كتابه 'التأملات'، الفصلين الثالث والخامس). من هنا فإن رفض التفكير الغائي شيء، والإيمان بوجود خالق للكون شيء آخر، فالغائية فكرة سخيفة لا تساعدنا على فهم ظواهر الطبيعة، ولعل 'فولتير' كان محقاً عندما سخر من التفكير الغائي بقوله: 'غاية الأنف هي إسناد النظارات'!
في المقال القادم، سنتطرق إلى ذورة الانفصال بين الدين والعلم، والتي جاءت على شكل تصادم بين تعاليم الكنيسة واكتشافات العلم الحديث، وسنرى كيف أدى هذا التصادم إلى إعادة صياغة العلاقة التاريخية بين العلم والدين.
يتبع،،،
لكن مع بزوغ نجم الحضارة الإغريقية، وفي القرن السادس قبل الميلاد تحديداً، ظهرت على السطح ملامح أول انفصال حقيقي بين العلم والدين، وذلك على أيدي مجموعة من الفلاسفة المنتمين إلى مدينة Miletus الإغريقية (وهي تقع الآن ضمن حدود تركيا). لم يلجأ أولئك الفلاسفة إلى الآلهة في محاولة إيجاد تفسير لظواهر الطبيعة، بل اعتمدوا بدلاً من ذلك على قوى الطبيعة في تفسيرهم لتلك الظواهر. مثلا، 'طاليس' لاحظ تحوّل الماء من الحالة الصلبة، مروراً بالحالة السائلة، إلى الحالة الغازية، وقادته تلك الملاحظة إلى القول إن جميع الظواهر الطبيعة يرجع أصلها إلى مادة واحدة، وهي الماء! في المقابل، 'أنكساغوراس' تبنّى تفسيراً كيميائياً، حيث رأى أن أصل جميع المواد يعود إلى أربعة عناصر: الماء، والهواء، والتراب، والنار.
في فترة القرون الوسطى، كانت هناك محاولات دؤوبة إلى إيجاد توافق بين الإيمان والعقل، وأبرز مَن سلكوا هذا الطريق هما 'ابن رشد' و'سان توماس أكويناس'، فكلاهما كان يرى أن الدين والعلم يكمّل أحدهما الآخر ولا تناقض بينهما. هذا الرأي استند في المقام الأول إلى تعاليم 'أرسطو'، الذي لم يكن أساساً يؤمن بوجود إله، لكنه كان يرى أن هناك أربعة أسباب لأي ظاهرة طبيعية، أحدها هو ما يعرف بالسبب 'الغائي'، أي أن لكل عملية طبيعية غاية أو هدفا نهائيا تصبو إليه، فالقلب، مثلاً، غايته ضخ الدم في أنحاء الجسم، والأذن غايتها سماع الأصوات، إلى آخره! إذا كانت لكل عملية بيولوجية أو ظاهرة طبيعية غاية خاصة بها، فإن من الطبيعي افتراض أن الكون بمجمله له غاية أيضاً، وإذا كان للكون غاية، فلابد من وجود خالق يحدد طبيعة هذه الغاية. هنا تحديداً تكمن استفادة 'أكويناس' من تعاليم 'أرسطو' في محاولة التوفيق بين الدين المسيحي والعلم.
مع بدايات عصر النهضة وظهور ثورات علمية متتالية على أيدي 'كوبرنيكوس' و'كبلر' و'غاليليو' و'نيوتن'، برزت الحاجة إلى استبدال المنظور الأرسطي للكون بمنظور جديد، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى التخلي عن التفكير الغائي في فهم ظواهر الطبيعة، حيث برز على السطح رأي يقول: وظيفة العلم تنحصر في تفسير ظواهر الطبيعة، وليس من اختصاص العلم أن يحدد هدف الرب من خلقه للكون. إقصاء التفكير الغائي عن المنهج العلمي كان بمنزلة مقدمة لانفصال جديد بين الدين والعلم، لكن ينبغي التأكيد هنا أن هذا الانفصال لم يكن ينطوي على رفض للدين، فالعلماء الذين أشرت إليهم منذ قليل كانوا جميعاً مخلصين في إيمانهم بوجود خالق، على سبيل المثال، 'نيوتن' كتب حول الدين المسيحي أكثر مما كتب في مجال الفيزياء، و'ديكارت' بنى فلسفته على فكرة وجود خالق (انظر كتابه 'التأملات'، الفصلين الثالث والخامس). من هنا فإن رفض التفكير الغائي شيء، والإيمان بوجود خالق للكون شيء آخر، فالغائية فكرة سخيفة لا تساعدنا على فهم ظواهر الطبيعة، ولعل 'فولتير' كان محقاً عندما سخر من التفكير الغائي بقوله: 'غاية الأنف هي إسناد النظارات'!
في المقال القادم، سنتطرق إلى ذورة الانفصال بين الدين والعلم، والتي جاءت على شكل تصادم بين تعاليم الكنيسة واكتشافات العلم الحديث، وسنرى كيف أدى هذا التصادم إلى إعادة صياغة العلاقة التاريخية بين العلم والدين.
يتبع،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق