قبل أن ينشر 'كوبرنيكوس' كتابه الشهير حول حركة الأجرام السماوية، بعث برسالة إلى صديق يستشيره فيها حول كيفية نشر الكتاب من دون إثارة غضب رجال الكنيسة، فجاءه الرد بأن عليه أن يؤكد في مقدمة الكتاب أن فكرة دوران الأرض حول الشمس لا تعكس بالضرورة حقيقة النظام الشمسي، بل هي مجرد فرضية ستقود، في حال تم تبنيها، إلى نتائج فلكية دقيقة! تم نشر الكتاب في عام 1543 من دون أن يحدث ضجة كبيرة، لكن المواجهة الحقيقية بدأت عندما دافع 'غاليليو' عن فكرة 'كوبرنيكوس' حول مركزية الشمس، وقد بدأت هذه المواجهة مع الكنيسة على شكل سلسلة من المحاكمات، ثم انتهت بمنع نشر كتب 'غاليليو' وإرغامه على الإقامة الجبرية في منزله إلى يوم وفاته في الثامن من يناير من عام 1642.
'ديكارت' كان أشد حرصاً على عدم إثارة غضب محاكم التفتيش، فهو يعترف في أحد كتبه أنه انتهى من كتابة مخطوطة حول العلوم الطبيعية، لكنه آثر عدم نشرها بعد معرفته بما حلّ بـ'غاليليو' (انظر كتابه 'خطاب في المنهج'، الفقرة الأولى من الفصل السادس). 'ديكارت' أيضا كان حريصاً على حياته، حيث اختار أن يهجر المجتمع الفرنسي الكاثوليكي المتعصب ليقيم في رحاب المجتمع الهولندي البروتستانتي المتسامح! لكن أبرز ملامح هذا الحذر من غضب الكنيسة نجده في فلسفة 'ديكارت' حول ثنائية الجسد والروح، فحسب هذه الفلسفة، خاصية التمدد في المكان هي أبرز ما يميز الجسد (أو المادة)، وخاصية التفكير هي أبرز ما يميز الروح (أو العقل)، لذا فإن مجال كل منهما منفصل تماماً عن الآخر، وتأكيد 'ديكارت' على هذا الانفصال بين مجالي الروح والجسد يؤدي غرضين: الغرض الأول، هو طمأنة رجال الكنيسة بأن العلوم المتعلقة بالمادة لا تتضمن تشكيكاً بعالم الروحانيات أو تهديداً لجوهر الدين، والغرض الثاني، هو تمهيد الطريق إلى تأسيس رؤية جديدة للكون لتحل مكان المنظور الأرسطي القديم، وهذه الرؤية تعرف اليوم باسم 'الفلسفة الميكانيكية' للكون، حيث يرى 'ديكارت' أن الكون أشبه بآلة ضخمة، لا يتحرك جزء منها إلاّ تحت تأثير مباشر من قِبل جزيء آخر، أي أن سبب كل ظاهرة طبيعية هو سبب فيزيائي محض.
من الواضح أن 'ديكارت' أراد تطهير العلم الحديث من عالم الأشباح، لكن مجيء 'نيوتن' أحدث إرباكا كبيرا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، فبالرغم من النجاح الباهر الذي حققه 'نيوتن' في التوحيد بين حركة الأجرام السماوية وحركة الأجسام الأرضية، (أي بين قوانين 'كبلر' وقوانين 'غاليلو')، فإن مفهوم 'التأثير عن بعد' الذي تضمنه قانون الجاذبية لم يكن منسجماً مع فلسفة ديكارت الميكانيكية، وقد رأى الكثير من معاصري 'نيوتن' في هذا المفهوم عودة جديدة إلى عالم الأشباح وعقلية الإنسان البدائي، بينما وجد رجال الدين في قانون الجاذبية انتصاراً لإرادة الخالق وتكذيباً لمادية العلم التي جاء بها 'ديكارت'!
مع مجيء 'آينشتين'، اختفى مفهوم 'التأثير عن بعد' ليحل مكانه تفسير هندسي لقانون الجاذبية، لكن رجال الدين وأنصار الفلسفة المثالية استمروا في محاولة إيجاد مكان للروح في عالم المادة، ومع عودة مفهوم 'التأثير عن بعد' في نظرية الكم الفيزيائية، عادت من جديد محاولات تفسير نتائج العلم الحديث على أساس ديني!
قدّمت للقارئ لمحة سريعة عن تاريخ العلاقة بين العلم والدين، حيث رأينا كيف خرج العلم من رحم الدين، ثم ما لبث أن تحرّر تدريجياً من عباءة الدين، ليستمر شيئاً فشيئاً في تناول موضوعات كانت تقع ضمن اختصاص الدين! في فجر التاريخ، كان العلم في خدمة الدين، وأما اليوم فليس بوسع رجال الدين سوى مراقبة نتائج العلم الحديث، إمّا بغرض استخدام تلك النتائج للتأكيد على صحة مقولات الدين، وإما بغرض تشويهها للحط من قدر العلم والتقليل من شأنه، ولعل أحدث عمليات التشويه تلك التي جاءت ضمن خبر نشرته إحدى القنوات العربية حول نظرية 'داروين'، وفي يقيني أن تشويه العلم سيستمر إلى أن ينجلي ظلام الجهل!
الأربعاء، 7 أكتوبر 2009
العلاقة التاريخية بين العلم والدين (2)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق