قبل عشر سنوات تقريبا، وفي أحد المقاهي الشعبية المجاورة للبحر، سألت رجلا عجوزا أن يحكي لي عن ذلك الزمن الذي يحلو للبعض أن يسمونه بـ«الزمن الجميل»، وطلبت منه تحديدا أن يسهب في وصف تجربته بوصفه غوّاصا (أو «غيص» في اللهجة المحلية). جاءت إجابة ذلك العجوز الطيب في غاية الاختصار، حيث اكتفى بكلمة واحدة فقط: شقاء! ظننت وقتها أني فهمت ما يعني، لكني لم أدرك المعنى العميق لتلك الكلمة إلاّ بعد أن فتحت ملف «تاريخ الكويت» في رحاب مدينة الضباب، وهو ملف غني بالمعلومات، وسأتناول هذا الملف في مقالات لاحقة، لكني أعد القارئ بعدم ذكر معلومة لا يرغب في سماعها، فنحن في نهاية المطاف في الكويت، حيث اعتاد الناس سماع ما يرغبون سماعه فقط! أضف إلى ذلك أن لدينا نظاما تعليميا قائما على فكرة استبعاد أي معلومة غير مرغوب فيها، ليس لأنها معلومة خاطئة، بل لأنها غير منسجمة مع «الذوق العام»، كما أن أغلب الصحف يملكها أشخاص لهم ألف سبب «وجيه» يدفعهم إلى حجب بعض المعلومات التي قد لا تنسجم و مصالحهم الخاصة! رغم كل هذه الحقائق، مازال البعض يعتقد أن بإمكانه سرد تاريخ الكويت بكل موضوعية، لكن لا يهم، لنرجع إلى موضوع المقال!
ضمن كتابات «ريتشارد لو بارون» حول زيارته لمنطقة الخليج في النصف الأول من القرن الماضي، هناك وصف دقيق لمعاناة الرعيل الأول في مهنة الغوص. لنقرأ ما ذكره الكاتب: «بعد نهاية موسم الغوص يكون الغطاس قد تحمّل المستحيل، فهو على الأرجح أكمل أكثر من 3000 غطسة في عمق يترواح ما بين 30 إلى 50 قدم تحت الماء، مما يعني أنه مكث تحت مياه الخليج الفارسي من دون هواء مدة تتجاوز الأربعين ساعة في الأسبوع الواحد. ليس من المستغرب أن يكون هناك مكان شاغر في كل سفينة، فهذا المكان الشاغر تم حجزه لجثة غواص أعياه التعب قبل أن يفارق الحياة»!
لم تقتصر معاناة الغواص على الجانب البدني، فهناك أيضا الجانب النفسي، فالغواص مدين دائما لربّان السفينة (النوخذة)، وربّان السفينة مدين عادة للتاجر الذي قام بتمويل صناعة السفينة ومؤونتها، وقد لاحظ هذه الحقيقة «آلان فيليير» في كتابه «أبناء السندباد»، حيث يقول إن «مهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ لم تكن سوى تجارة قائمة على الديون» (صفحة 353). كما أن من المعروف أن الديون كانت تلاحق الغوّاص حتى بعد مماته، فالأبناء لا يرثون عادة سوى ديون أبيهم المتراكمة كما سنرى لاحقا!
قبل صدور قانون الغوص في فترة حكم الأمير الراحل أحمد الجابر، كانت هناك محكمة تعقد جلساتها سنويا للنظر في المنازعات المتعلقة بشؤون الغوص، وكانت أغلب تلك المنازعات تتعلق بمشكلات الدائن والمدين في ذلك «الزمن الجميل»! أعضاء المحكمة معينون من قبل الأمير، وهم عبارة عن أشخاص يمثلون شريحتي التجار والنواخذة، أما شريحة البحّارة البسطاء فلم يكن لهم تمثيل ضمن طاقم أعضاء المحكمة (انظر كتاب الباحثة الكندية «جاكلين إسماعيل» عن الكويت، صفحة 64).
بعد صدور قانون الغوص في عام 1940، والذي كان من المفترض أن يخفّف من معاناة البحّارة البسطاء، لم تتحسّن الصورة كثيرا. لنقارن، مثلا، بين المادة 19 والمادة 34 من ذلك القانون كما وردتا في كتاب «سيف مرزوق الشملان» حول تاريخ الغوص:
المادة 19: إذا مات البحّار وهو لا يملك غير بيت سكناه وله أولاد صغار وثبت أن البيت داخل عليه من دراهم الغوص فعلى النوخذة أن يصبر حتى يبلغ الأولاد رشدهم وحينئذ يخيرون بين دفع الطلب للنوخذة أو إذا ثبت أن البيت داخل عليهم من غير دراهم الغوص فبعد بلوغ الأولاد سن الرشد يخيرون بين بيع البيت ودفع قيمته لجميع الدائنين أو يبقي البيت لهم وهم يتعهدون بدفع جميع ما على والدهم من الدين.
المادة 34: كل تاجر يعطي دينا لنوخذة الغوص على حاصل الغوص ولم يدرك النواخذة ما يسد الدين وأراد الدائن وفاء دينه، فليس له أن يطلب الوفاء من العقار، بل يأخذ جميع البحارة والسفن، فإن لم تف بالدين كله فله أن يأخذ بعد ذلك من العقار عدا بيت سكناه.
لاحظ التمييز غير العادل بين البحّار البسيط والنوخذة! لاحظ أيضا أن المادة 34 جعلت الجماد في مرتبة أرقى من مرتبة الإنسان، فهي توفّر للعقار الخاص بالنوخذة حماية أكبر من تلك التي توفّرها للبحّارة التابعين له، فهؤلاء ليسوا سوى متاع تنتقل ملكيته بين النوخذة والتاجر!
أسفرت مهنة الغوص في الكويت عن نظام تمويلي يمسك بزمامه ويحدد قوانينه طبقة واحدة فقط، وهي طبقة التجار، فالنواخذة لم يكونوا في الأغلب قادرين على تمويل بناء سفنهم، فضلا عن تمويل الرحلة بأكملها. أدّى هذا النظام التمويلي إلى تراكم الثروة في أيدى مجموعة قليلة من أبناء البلد، وتراكم الثروة يعني تراكما في السلطة السياسية، وهو أمر أدركه الشيخ «مبارك» منذ وصوله إلى السلطة في عام 1896!
قبل سنة، عدت من جديد إلى المقهى نفسه، وعلمت أن العجوز الطيّب انتقل إلى العالم الآخر. رحل من دون أن يفصح عن سرّ شقائه، لكنه ترك وراءه أحفادا بعضهم مدين لأحد البنوك، وصاحب البنك حفيد أحد أبرز التجار المموّلين لرحلات الغوص! إذا كان ثمة خطأ في نظرية «ماركس»، فلابد أن نعثر عليه بين سطور تاريخ الكويت، ذلك أن التغير في قوى الإنتاج بعد ظهور النفط لم يصاحبه تغيّر في علاقات الإنتاج، فالأفراد الذين كانوا يحددون قواعد اللعبة بقوا كما هم، ولكن هذا موضوع يطول، وقد أتطرق إليه في مقال لاحق.
الأربعاء، 14 أكتوبر 2009
لعنة الغوص
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق