من المألوف أن تتكوّن كل جامعة من كليات وأقسام علمية، لكن ينبغي الانتباه إلى أن البحث العلمي لا يعترف بهذه الحدود الأكاديمية بين كلية وأخرى، أو بين قسم علمي وآخر، فالعلم معنيٌّ بإيجاد حلول لمشكلات تتطلب أحيانا تضافر جهود مجموعة من الباحثين ممن ينتمون إلى تخصصات علمية مختلفة، وسأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على هذه الحقيقة من خلال التطرق إلى تخصص علمي حديث نسبيا، وهو ما يعرف باسم 'علم اللغة النظري' أوTheoretical Linguistics.
هناك ارتباط وثيق بين علم اللغة النظري وعلم الأحياء، وكي نقف على حقيقة هذا الارتباط، دعنا نلقِ نظرة على الأسئلة التالية:
1- لماذا تقتصر اللغة على فصيلة الإنسان فقط؟
2- كيف يكتسب الأطفال القدرة على تعلّم اللغة؟
3- كيف تطوّرت اللغة؟
اللغة تقتصر فقط على فصيلة الإنسان، وهناك اختلاف طفيف جدا بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي من حيث الجينات، وهذا يعني أن سرّ اقتصار اللغة على فصيلة الإنسان يكمن في هذا الاختلاف الطفيف في التركيب الجيني بين الفصيلتين. هذا الاستنتاج مبنيّ على افتراض يشير إلى وجود علاقة وثيقة بين جينات الإنسان وقدرته على اكتساب اللغة، وصحة هذا الافتراض مرتبطة بالسؤال الثاني أعلاه، فمن المعروف أن الأطفال يكتسبون اللغة في سن مبكرة جدا (بين 18 شهرا إلى 4 سنوات)، واكتساب اللغة لا يحتاج إلى تلقين مستمر أو دراسة منتظمة، مما يعني أن قدرة الأطفال على تعلم اللغة لا ترتبط فقط بالبيئة التي نشؤوا فيها، بل في التركيب الجيني الذي يشترك فيه جميع البشر. إن القدرة على اكتساب اللغة تشبه القدرة على المشي، فكلاهما لا يحتاج إلى تلقين مسبق!
ترتبط هذه النظرة البيولوجية لعلم اللغة بنظريات عالم اللسانيات الشهير 'نعوم تشومسكي'، فهو يرى أن اللغة مثل بقية أعضاء الجسم، تنمو لاإراديا وفق ما يمليه المخطط الجيني! لقد حاول 'تشومسكي' طوال عقود طويلة أن يدلل على أن اللغة نظام جيني معقد جدا، لكنه اضطر في السنوات الأخيرة إلى مراجعة آرائه حول هذه المسألة، والسبب في ذلك مرتبط بالسؤال الثالث أعلاه، فمن المتعارف عليه علميا أن نشوء اللغة في فصيلة الإنسان حدث قبل خمسين ألف سنة على أقل تقدير، وهذه مدة زمنية قصيرة جدا إذا ما قيست بعمر تطور الكائنات الحية، لذا فإن القول إن اللغة نظام جيني فائق التعقيد يتعارض مع أحد أهم مبادئ نظرية التطور، وهو مبدأ يشير إلى أن الانتقاء الطبيعي Natural Selection يحتاج إلى وقت طويل جدا كي يؤتي ثماره وينتج نظاما بيولوجيا فائق التعقيد مثل اللغة. لقد حاول 'تشومسكي' تجاوز هذه المعضلة من خلال ما يعرف باسم The Minimalist Program، وهو عبارة عن محاولة إلى إيجاد علاقة بين قوانين اللغة وقوانين الفيزياء! لكن كيف؟
اللغة وظيفة من وظائف العقل، والعقل وظيفة من وظائف الدماغ، وبالتالي يصبح من المنطقي القول إن اللغة وظيفة من وظائف الدماغ. هذا الارتباط بين اللغة والدماغ نراه، مثلا، ضمن حالات مرضية تؤدي إلى فقدان القدرة على النطق، والسبب في ذلك يعود إلى تلف الخلايا العصبية في منطقة محددة من الدماغ تعرف باسم Broca’s area. لكن بالنسبة لـ'تشومسكي'، الارتباط بين اللغة والدماغ أعمق من ذلك بكثير، فهو يرى أن القوانين المجردة التي تحكم اللغة تخضع إلى القوانين الفيزيائية التي تحكم الدماغ، وهذا يعني أن من المحتمل أن يكون التركيب الجيني غير مسؤول عن إنتاج نظام معقد من قوانين اللغة، بل إن المسؤول عن ذلك هي قوانين الفيزياء! هناك من يتبنى هذا الرأي من بين علماء الفيزياء، لعل أشهرهم أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة أُكسفورد السير 'روجر بينروس'، إذ يرى أن حلّ سرّ اللغة مرهون بقدرة علماء الفيزياء على ردم الهوّة بين 'نظرية الكم' والنظرية النسبية (انظر كتابه The Road to Reality).
سبق أن أشرنا إلى أن اللغة وظيفة من وظائف العقل، وهذا يعني أن علم اللغة مرتبط أيضا بفروع المعرفة التي تتخذ من العقل موضوعا للبحث، مثل علم النفس وفلسفة العقل وعلم الإدراك وغيرها. هناك أيضا ارتباط وثيق بين علم اللغة وعلم المنطق، فقد حاول أنصار 'الوضعية المنطقية' إخضاع اللغات الطبيعية لقوانين المنطق، ولعل أشهر من قام بذلك العالم الألماني 'رودولف كارناب'.
لن أستطيع من خلال مقال واحد أن أحصر عدد العلوم المرتبطة بعلم اللغة النظري، لكن أتمنى أن أكون قد وفّقت في إبراز أهمية هذا العلم وارتباطه الوثيق بفروع المعرفة الأخرى.
هناك ارتباط وثيق بين علم اللغة النظري وعلم الأحياء، وكي نقف على حقيقة هذا الارتباط، دعنا نلقِ نظرة على الأسئلة التالية:
1- لماذا تقتصر اللغة على فصيلة الإنسان فقط؟
2- كيف يكتسب الأطفال القدرة على تعلّم اللغة؟
3- كيف تطوّرت اللغة؟
اللغة تقتصر فقط على فصيلة الإنسان، وهناك اختلاف طفيف جدا بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي من حيث الجينات، وهذا يعني أن سرّ اقتصار اللغة على فصيلة الإنسان يكمن في هذا الاختلاف الطفيف في التركيب الجيني بين الفصيلتين. هذا الاستنتاج مبنيّ على افتراض يشير إلى وجود علاقة وثيقة بين جينات الإنسان وقدرته على اكتساب اللغة، وصحة هذا الافتراض مرتبطة بالسؤال الثاني أعلاه، فمن المعروف أن الأطفال يكتسبون اللغة في سن مبكرة جدا (بين 18 شهرا إلى 4 سنوات)، واكتساب اللغة لا يحتاج إلى تلقين مستمر أو دراسة منتظمة، مما يعني أن قدرة الأطفال على تعلم اللغة لا ترتبط فقط بالبيئة التي نشؤوا فيها، بل في التركيب الجيني الذي يشترك فيه جميع البشر. إن القدرة على اكتساب اللغة تشبه القدرة على المشي، فكلاهما لا يحتاج إلى تلقين مسبق!
ترتبط هذه النظرة البيولوجية لعلم اللغة بنظريات عالم اللسانيات الشهير 'نعوم تشومسكي'، فهو يرى أن اللغة مثل بقية أعضاء الجسم، تنمو لاإراديا وفق ما يمليه المخطط الجيني! لقد حاول 'تشومسكي' طوال عقود طويلة أن يدلل على أن اللغة نظام جيني معقد جدا، لكنه اضطر في السنوات الأخيرة إلى مراجعة آرائه حول هذه المسألة، والسبب في ذلك مرتبط بالسؤال الثالث أعلاه، فمن المتعارف عليه علميا أن نشوء اللغة في فصيلة الإنسان حدث قبل خمسين ألف سنة على أقل تقدير، وهذه مدة زمنية قصيرة جدا إذا ما قيست بعمر تطور الكائنات الحية، لذا فإن القول إن اللغة نظام جيني فائق التعقيد يتعارض مع أحد أهم مبادئ نظرية التطور، وهو مبدأ يشير إلى أن الانتقاء الطبيعي Natural Selection يحتاج إلى وقت طويل جدا كي يؤتي ثماره وينتج نظاما بيولوجيا فائق التعقيد مثل اللغة. لقد حاول 'تشومسكي' تجاوز هذه المعضلة من خلال ما يعرف باسم The Minimalist Program، وهو عبارة عن محاولة إلى إيجاد علاقة بين قوانين اللغة وقوانين الفيزياء! لكن كيف؟
اللغة وظيفة من وظائف العقل، والعقل وظيفة من وظائف الدماغ، وبالتالي يصبح من المنطقي القول إن اللغة وظيفة من وظائف الدماغ. هذا الارتباط بين اللغة والدماغ نراه، مثلا، ضمن حالات مرضية تؤدي إلى فقدان القدرة على النطق، والسبب في ذلك يعود إلى تلف الخلايا العصبية في منطقة محددة من الدماغ تعرف باسم Broca’s area. لكن بالنسبة لـ'تشومسكي'، الارتباط بين اللغة والدماغ أعمق من ذلك بكثير، فهو يرى أن القوانين المجردة التي تحكم اللغة تخضع إلى القوانين الفيزيائية التي تحكم الدماغ، وهذا يعني أن من المحتمل أن يكون التركيب الجيني غير مسؤول عن إنتاج نظام معقد من قوانين اللغة، بل إن المسؤول عن ذلك هي قوانين الفيزياء! هناك من يتبنى هذا الرأي من بين علماء الفيزياء، لعل أشهرهم أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة أُكسفورد السير 'روجر بينروس'، إذ يرى أن حلّ سرّ اللغة مرهون بقدرة علماء الفيزياء على ردم الهوّة بين 'نظرية الكم' والنظرية النسبية (انظر كتابه The Road to Reality).
سبق أن أشرنا إلى أن اللغة وظيفة من وظائف العقل، وهذا يعني أن علم اللغة مرتبط أيضا بفروع المعرفة التي تتخذ من العقل موضوعا للبحث، مثل علم النفس وفلسفة العقل وعلم الإدراك وغيرها. هناك أيضا ارتباط وثيق بين علم اللغة وعلم المنطق، فقد حاول أنصار 'الوضعية المنطقية' إخضاع اللغات الطبيعية لقوانين المنطق، ولعل أشهر من قام بذلك العالم الألماني 'رودولف كارناب'.
لن أستطيع من خلال مقال واحد أن أحصر عدد العلوم المرتبطة بعلم اللغة النظري، لكن أتمنى أن أكون قد وفّقت في إبراز أهمية هذا العلم وارتباطه الوثيق بفروع المعرفة الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق