لنبدأ بحقيقة يعرفها الجميع تقريباً، وهي أن مشروع قانون الخصخصة ظل حبيس الأدراج لسنوات طويلة، ولم تبدِ الحكومات التي تعاقبت طوال تلك الفترة أي رغبة حقيقية في دعم هذا المشروع، وقد ظلت بعض الصحف المحلية لسنوات عديدة تهاجم بعنف أصحاب القرار في الحكومات المتتالية لتقاعسهم في تبني مشروع قانون الخصخصة. بطبيعة الحال، لم يكن التقاعس الحكومي في دعم المشروع قراراً اعتباطياً، بل كان على العكس من ذلك قراراً مدورساً بدقة، فالأسرة الحاكمة تدرك جيدا أن انتقال الملكية يعني انتقال السلطة، مما يدفعنا إلى أن نتساءل: ما الذي تغيّر كي تقف الحكومة الآن بقوة مع قانون الخصخصة؟
هناك بطبيعة الحال ما يسمى بـ'خطة التنمية' ذات الأرقام الفلكية، ومن الطبيعي أن تلجأ الحكومة إلى الخصخصة إن هي أرادت نجاح الخطة حسب زعم بعض مؤيدي توجهات الحكومة الحالية، لكن هذه الحجة لا تقدم جوابا عن السؤال المطروح، بل إنها تجعل السؤال ذاته أكثر إلحاحا: ما الذي يدفع الأسرة الحاكمة إلى الوقوف مع خطة اقتصادية تتضمن تنازلاً عن جزء كبير من سلطتها السياسية؟
أقصر طريق للإجابة هو أن نفحص حقيقة ما يتضمنه السؤال نفسه، فالقول بأن انتقال الملكية يعني انتقال السلطة قول صحيح، نظرياً على الأقل، لكن هل في دعم الأسرة الحاكمة لمشروع الخصخصة تهديد فعلي لسلطتها السياسية، خصوصا إذا علمنا أن هناك من بين أبناء الأسرة ممن ينتمون إلى نادي كبار التجار ورجال الأعمال؟ في ظل تغاضي الأسرة الحاكمة عن الخط التاريخي الفاصل بين الحكم والتجارة في الكويت، لا تبدو مشاريع الخصخصة مخيفة بالنسبة لأسرة الحكم.
لكن هذه الإجابة لا تبدو كافية لسببين على الأقل: الأول، هو أن عدم احترام الفصل بين الحكم والتجارة يرجع تاريخه إلى سنوات طويلة، لذا فهو لا يفسر التغير الطارئ في سياسة الأسرة الحاكمة تجاه موضوع الخصخصة. أما السبب الثاني فيشير إلى حقيقة بديهية، وهي أن شريحة التجار لا تقتصر فقط على بعض أبناء الأسرة الحاكمة، مما يعني أن الخصخصة تؤدي، على الأقل، إلى تقاسم للسلطة السياسية بين أسرة الحكم وطبقة تجارية محدودة العدد.
هذا يدفعنا إلى إعادة صياغة السؤال المطروح على النحو التالي: ما الذي تغيّر كي تلجأ الأسرة الحاكمة إلى خيار التقاسم الفعلي للسلطة مع شريحة تجارية محدودة؟ العلاقة بين أسرة الحكم والتجّار علاقة اتسمت بمد وجزر منذ نشأتها، لكنها بدأت في ظل العهد الجديد تتخذ طابعاً فريداً من الثقة المتبادلة، ولعل الحسنة الوحيدة لزيارة وفد ما يسمى بـ'مجموعة 26' إلى سمو الأمير هي أنها أتاحت لنا، على الأقل، تحديد الجهة التي تشير إليها بوصلة القصر، خصوصاً مع التصريحات التي أعقبت تلك الزيارة، والتي أشارت بشكل واضح إلى رفض موضوع القروض وتأييد المشاريع الاقتصادية الكبرى.
سبق أن أشرت في مقال سابق أن الأسرة الحاكمة نجحت طوال العقود الماضية في استغلال موارد النفط في ضم شرائح المجتمع كافة تحت عباءة إرادتها السياسية، لكن يبدو أن تنامي شوكة ما يسمى بـ'المعارضة الجديدة' أدى إلى إعادة النظر في جدوى هذه الاستراتيجية، خصوصا مع اضمحلال 'دولة الرفاه' الذي أدى بدوره إلى ارتفاع حدة الشعارات المطالبة بتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية.
تسويق مشروع قانون الخصخصة يأتي عادة بوصفه منظومة متكاملة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل ورفع مستوى الكفاءة وتحسين الجودة، ويبدو أن القطاع الخاص نجح في إقناع الرأي العام بأن الخصخصة لم تعد مجرد خيار مطروح بل ضرورة حتمية! في دراسة حديثة نسبيا لتجربة الخصخصة في بريطانيا منذ ثمانينيات القرن الماضي، كان الاستنتاج الوحيد الذي توصلت إليه الدراسة هو أن أغلب محاسن الخصخصة التي تم الإعلان عنها قبل التخصيص لم تتحقق على أرض الواقع، بينما جاءت مضار الخصخصة واضحة لا لبس فيها، أهمها هو اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء (انظر The Impact of Privatisation، لندن، 1997).
أخيراً، لست أرى في وقوف الأسرة الحاكمة مع مشروع الخصخصة سوى تعبير عن خيار استراتيجي في إعادة تشكيل خارطة التحالفات القديمة، ولست أرى في الاكتساح الساحق للمشروع في مداولته الأولى سوى بداية انتقال فعلي للسلطة من نوّاب البرلمان إلى رجال الأعمال، لكن حتى هذه النقطة لست متأكداً تماماً منها، لأن أغلب نواب البرلمان يمكن تصنيفهم ضمن رجال الأعمال! الشيء المؤكد هو أن الخصخصة ستقضي تدريجياً على ما تبقى من النظام شبه الديمقراطي في الكويت.
الثلاثاء، 20 أبريل 2010
أسرة الحكم والخصخصة
الاثنين، 11 يناير 2010
المعارضة السياسية بين الأمس واليوم
معارضة الأمس كانت معارضة الفئة الواحدة، وهي فئة مكونة من طبقة برجوازية على قدر عال من الحس الجماعي بطبيعة مصالحها التجارية وسبل تحقيقها، كما امتازت أيضاً بالقدرة على التنظيم وانتهاز الفرص في المشاركة في صنع القرار السياسي، بدءاً من الاستفادة من دورها في اختيار وريث الإمارة لتأسيس مجلس للشورى في عام 1921، مروراً باستغلال نفوذها الاقتصادي في التفاوض مع الأسرة الحاكمة على مسوّدة دستور 1939، وانتهاء بقبولها القسري للحد الأدنى من الديمقراطية والمتمثل في دستور 1962.
لقد حرصت معارضة الأمس على تأسيس البنية التحتية اللازمة لقيام مجتمع رأسمالي، وذلك من خلال سن التشريعات المتعلقة بتنظيم شؤون الميزانية والقضاء والأمن، وبناء الطرق والمدارس والمستشفيات، ثم عملت بعد ذلك على تنظيم القوانين المرتبطة بالاحتكارات التجارية، وقد نجحت إلى حد كبير في تحقيق مصالح الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وساهم في هذا النجاح سيطرتها الكاملة على قوى الإنتاج، مما أكسبها قدرة فائقة على التفاوض مع الأسرة الحاكمة حول المشاركة في صنع القرار السياسي.
بعد ظهور النفط وبداية تدفق الإيرادات النفطية، فقدت الطبقة التجارية الكثير من قدرتها التفاوضية مع الأسرة الحاكمة حول شؤون الحكم، فالأدوار تبدّلت بعد أن 'أصبح التجّار مجرد زبائن عند الدولة'، على حد تعبير الدكتور غانم النجّار في مقابلة أجرتها معه الباحثة 'ميري آن تترولت' (انظر بحثها الذي حمل عنوان Autonomy, Necessity, and the Small State، صفحة 578)، ومن مظاهر ضعف القدرة التفاوضية عند الطبقة التجارية تقلّص سقف المطالبة بمشاركة الأسرة الحاكمة في اتخاذ القرار السياسي، ويكفي عقد مقارنة بسيطة بين مسودة دستور 1939 ودستور 1962 للتعرف على حجم التراجع في سقف المطالب السياسية لمعارضة الأمس!
من هنا فإن القول بأن معارضة اليوم ليست سوى امتداد لمعارضة الأمس يفترض وجود تطابق بين مصالح شريحتين اجتماعيتين، إحداها تعتمد على الدولة في الحصول على راتبها الشهري، والآخرى تعتمد على الدولة في الحصول على أكبر عدد ممكن من المناقصات والعقود التجارية، وهو افتراض ينافي الواقع، بل إن ما يجمع هاتين الشريحتين الاجتماعيتين يقتصر تحديداً على هذا الاعتماد السلبي على الدولة، وقد نجحت الأسرة الحاكمة في استغلال موارد النفط في ضم شرائح المجتمع كافة تحت عباءة إرادتها السياسية!
تبقى هناك أسئلة قد نتطرق إليها في مقالات لاحقة، منها على سبيل المثال: هل من الضروري أن تقف معارضة اليوم عند الحد الأدنى من الديمقراطية، خصوصا أنها غير معنية بضعف القدرة التفاوضية لمعارضة الأمس؟ أليس من الحكمة أن تبدأ المعارضة الحالية في تبنّي هدف استراتيجي يتمثل في زيادة سقف المشاركة في القرار السياسي، ثم تعمد بعد ذلك إلى تحقيق هذا الهدف من خلال المطالبة بقوانين تنظم العمل السياسي؟ والأهم من ذلك كله، هل تنجح المعارضة الحالية في توحيد صفوفها من خلال إدراك طبيعة الصراع الطبقي الكامن خلف معظم الخلافات السياسية، أم أنها ستستمر في الانشغال في توافه الأمور؟!
الاثنين، 4 يناير 2010
حول طبيعة القرار الديمقراطي
أثناء رحلة جوية، يكتشف قائد الطائرة وجود عطل فني، ولكونه إنسانا ديمقراطيا قلبا وقالبا، يلجأ قائد الطائرة إلى الرّكاب مقترحا عليهم التصويت على مصير الرحلة، حيث يطلب منهم أن يختاروا بين أمرين: إما الهبوط الاضطراري، وإما الاستمرار في الرحلة!
هذا المثال الطريف نجده في الأدبيات التي تتناول موضوع النظرية السياسية، ويأتي عادة في سياق التدليل على حقيقة أن القرار الديمقراطي قد لا يتناسب مع كل شؤون الحياة، فهناك أمور لا ينبغي أن تخضع لمبدأ الديمقراطية. لو نظرنا إلى هذا المثال مرّة أخرى، فسنرى بوضوح أن قائد الطائرة ارتكب خطأ فادحا في لجوئه إلى عملية التصويت على مصير الرحلة، ولعل سلوكه الديمقراطي يخفي في طياته فشلا ذريعا في تحمّل المسؤولية!
لكن إلى جانب الفشل في تحمّل المسؤولية، ما الذي يدفع قائد الطائرة إلى عملية التصويت على تقرير مصير الرحلة؟ ربما اعتقد قائد الطائرة أن القرار الذي يتم اتخاذه بطريقة ديمقراطية يكون أقرب إلى الصواب، ولكن هذه مغالطة تعرف باسم «المغالطة الديمقراطية»، ذلك أنه ليس من الضروري أن يكون القرار الديمقراطي قرارا سليما. لا جدال في أن القرار الديمقراطي كان وراء مقتل «سقراط»، وحرق «برونو»، ووصول «هتلر» و«موسوليني» إلى السلطة، لكن من العسير القول إن مثل هذه الأحداث المؤسفة تعبّر عن قرارات سليمة!
إذا أردنا أن نزيد من فرصة أن يكون القرار الديمقراطي قرارا صائبا، فلا بدّ من ضمان وجود أغلبية واعية ومدركة تماما لطبيعة الموضوع الخاضع لعملية التصويت. لتوضيح هذه النقطة، بإمكاننا أن نجري تعديلا طفيفا على المثال أعلاه، بحيث نفترض أن جميع ركّاب الطائرة عبارة عن أشخاص متخصصين في هندسة الطيران، وفي ظل هذا الافتراض لن يكون بوسعنا إلقاء اللوم على قائد الطائرة لو لجأ إلى عملية التصويت، ذلك أن من المحتمل جدا في هذه الحالة أن يكون رأي الأغلبية من الرّكاب رأيا صائبا!
على ضوء ما تقدّم، يصبح من المنطقي القول إن نجاح الديمقراطية في أي مجتمع بشري يعتمد على أمرين: الأمر الأول، هو اتفاق أفراد المجتمع الواحد على طبيعة المسائل التي من الممكن إخضاعها إلى عملية التصويت واتخاذ قرار ديمقراطي بشأنها، والأمر الثاني، هو العمل على تأسيس أغلبية واعية ومدركة لمبادئ النظام الديمقراطي.
لو نظرنا إلى الممارسة شبه الديمقراطية في الكويت، فسنلاحظ إخفاقا في كلا الأمرين، فعلى الرغم من التزام الحكومة الكويتية بمواثيق دولية تكفل حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، فإن البرلمان الكويتي لم يتورع عن إخضاع مثل هذه الحقوق الأساسية لعملية التصويت، وبالرغم من انخفاض نسبة الأمية في الكويت، فإن الأغلبية العظمى من الشعب مازالت جاهلة بأبسط مبادئ الديمقراطية، ومن المؤسف أن يكون من بينهم كتّاب وأساتذة ومتخصصون في الشأن العام!
ملاحظة هامشية: هناك مبدأ بسيط غاب عن بعض الكتّاب والمتخصصين في الشأن السياسي، ممن تصدوّا للدفاع عن صاحب قناة «السور» بحجة الذود عن حرية التعبير، والمبدأ ينص على التالي: لا تسامح مع اللاتسامح! أخشى أن يكون النفس العنصري وراء عدم قدرة أولئك الكتّاب على التمييز بين خطاب يحمل وجهة نظر، وخطاب مليء بالكراهية والعنصرية والإقصاء لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع!