المجتمع الديمقراطي المدني أشبه بهرم مقلوب، يرتكز على الفرد وتتربّع على قمته روح الجماعة، فعلى الصعيد الاجتماعي يحتفظ الفرد بخصوصيته التي يعبّر عنها من خلال طريقة تفكيره وأسلوب حياته، وعلى الصعيد السياسي يبحث الفرد عمّن يشاطره الأفكار والطموحات من خلال الانخراط في العمل الجماعي.هذا الهرم المقلوب يقف معتدلاً في مجتمعنا غير الديمقراطي وغير المدني، فعلى المستوى الاجتماعي تتوارى شخصية الفرد تحت عباءة الجماعة، وعلى المستوى السياسي تطغى الفردية الفجّة والأنانية المفرطة.لعل في هذا التباين تفسيراً لقوة التنظيمات السياسية في المجتمعات المدنية من جهة، وهشاشتها في مجتمعنا غير المدني من جهة أخرى، فالتنظيم السياسي المبني على قناعة كل عضو من أعضائه في الانضمام إليه هو إلى التماسك أقرب منه إلى التصدع والانفراط، وهذه القناعة لا تتشكّل على الوجه السليم إلّا في ظل مجتمع مفتوح يحترم خصوصية الفرد، ويمنحه فضاءً واسعاً من حرية التفكير وتطوير الذات.هذا الفضاء الواسع من الحرية الفردية غير متوافر في المجتمعات المحافظة، حيث يظل الفرد محكوماً بالتبعية لقيم القبيلة والأصل والمذهب، وهي تبعيّة يسهل استثمارها لتحقيق طموحات سياسية فردية.سبق أن أشرت في مقال سابق إلى وجه من وجوه التشابه بين العالم الطبيعي من جهة والمجتمعات المحافظة من جهة أخرى، فمثلما أن الطبيعة تعمل على توريث الجينات من جيل إلى جيل، فإن المجتمع المحافظ يضمن توريث السلوك من جيل إلى جيل، لكن هذا التشابه يقف عند هذا الحد، ذلك أن الطفرة الجينية تؤدي إلى تجديد في شكل الطبيعة، بينما النزعة الفردية تنطوي على تهديد لثوابت المجتمع المحافظ!بعبارة أخرى، الطفرة الجينية تتحدى النسخة الطبيعية المورّثة، ومع ذلك تبتسم الطبيعة مفسحة المجال للتجديد والتنوع، والنزعة الفردية تقاوم نسخة السلوك الاجتماعي الوراثي، لكن المجتمع المحافظ يكفهر ويتجهم ويعتبر ذلك تمرداً!لكن ماذا لو اتخذت الطبيعة من المجتمع المحافظ قدوة لها؟ ماذا لو حاربت الطبيعة كل طفرة جديدة في السلم الوراثي؟ الجواب العلمي عن هذا السؤال بسيط ومباشر، وهو أن فرصة وجودنا على هذا الكوكب ستكون مستحيلة.على ضوء ما تقدم، يصبح من المنطقي القول إن فرصة وجود تنظيمات سياسية مدنية متماسكة في مجتمع محافظ تكاد تكون مستحيلة، ذلك أن الشرط الأساسي لقيام مثل هذه التنظيمات غير متوافر، فمن دون وجود أفراد قادرين على التفكير والتعبير والاختيار، سيظل العمل السياسي محكوماً بالتبعية، سواء كانت هذه التبعية لأشخاص من ذوي الطموح السياسي المتّسم بالأنانية، أو لأحزاب دينية رجعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق